بلاغة غزّة في موسم الهدنة… ضوء القبور وعتمة المفاوضات
عبد الحميد جماهري
للذين يخِّسون الهدنة: لم يكن الفلسطينيون في الجنّة لكي نحاسبهم.. لماذا قبلوا الخروج منها؟ لقد كانوا في الجحيم. وللذين يستصغرون هول المجزرة بتمجيدها: الجنّة ليست وطناً لكي نصفّق لاستشهاد شعب.. كلّه، حتى يبني دولةً مستقلة عاصمتها القدس.. في السماء.
في كلّ حرب لا متكافئة، يكفي الضعيفُ فيها أن يظل حيّاً وواقفاً لكي يعلن انتصاره. وإذا استطاع أن يعدَّ أصابع يمناه من دون العودة إلى السطر، فقد ينجح الفرح. وأمّا القوي، المُعزَّز بمن هو أقوى منه، فإنه إذا لم يُنهِ وجودَ خصمه، فهو فاشل ومنهزم. وإذا استطاع أن يعدَّ أصابع يسراه من دون أن يحسب عدوه، فهو يوشك على التفاؤل. لعلّها المعادلة القائمة في غزّة وفي الشرق الأوسط، على بعد أسبوعين من هدنة غامضة.
إسرائيل انهزمت، بقول كتّابها الأكثر ابتعاداً عن الأسطورة، أمثال السفير الإسرائيلي السابق في باريس إيلي برنافي، كما في تقدير متطرّفيها الأكثر توغّلاً في التلمود، أمثال وزيرَي الفاشية في حكومة نتنياهو إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، تجسيداً لالتحاق البُعد الغيبي الديني بما سبقه من تنكيل سياسي هو البعد المتجدّد من فاشية القرن العشرين، فلا هي اجتثّت حركة حماس، ولا هي حرّرت الرهائن بالقوة وحدها، كما أعلن رئيس وزرائها. في الطريق إلى هذا الفشل، مع ذلك ربحت إسرائيل كثيراً من أوراق المفاوضات التي سبقت وقف إطلاق النار، أو ستلي مرحلته الثانية: خروج لبنان من أقاليم طهران المسلّحة، وانهيار نظام بشّار الأسد، ترك سورية مثل ثغرة ديفرسوار جغرافية من دون قبضة الباسدران، وخروج حزب الله و»حماس» بلا قيادات، وبلا جدران، وسقف منخفض من مطالب الوجود.
في فشل إسرائيل عن تحقيق ما أعلنت عنه من أهداف، قد يجد الفلسطيني أسباباً للفرح بالنصر، لولا أنقاض ما يراه قربه، ولولا ثقب الموت في عمقه.. لولا ما ستسفر عنه المفاوضات بعد دفن الموتى الظاهرين، ونشر إعلان البحث عن موت تحت الأنقاض، ورفع الركام. يردّد الفلسطيني في غزّة: «خلفي مجزرة.. وأمامي نصف فرح»، وهذا الفلسطيني، من شدّة ما أطال الحياة بالقرب منهما، أو في انتظارهما، يُحبّ الموت كما يحبّ بيته. وبيته ليس سوى دار الفرح الآيل للسقوط على رأسه. يصرّ على النصر، مع احتفاظٍ بحيّز مشهود له به من الأسطورة ومن الواقعية معاً؛ آلاف الشهداء يطرحون عليه سؤال الفاعلية الثورية في ترتيب الطريق إلى الدولة المستقلة. والغريب فينا أننا لا نطالبه لتقدير الثمن أو الكلفة الثورية في ضوء الطريق إلى الحرّية وبناء الدولة. نحن نطالبه بالاستشهاد فقط، وبإسقاط سؤال الدولة. هذه الواقعية المتعالية عن المجزرة، التي تفوق القدرة الإنسانية، جارة الفرح هاته، تُعتبر في تقدير المتفائلين منّا عنوان الصرامة الثورية، وهي عربون الوفاء للقضية، وهي الشرعية الوحيدة التي يجيزها منطق الصراع اللامتكافئ، وعليها نضع قدر الثورة بين يدي شهدائها، ونزيد إلى ثقل مسؤوليتهم ألم النصر. هذا الأمر يناسبنا، ويعفي الأحياء من ثقل موازين القوة ويزيد من رومانسية المعادلة. ولعلّ الأكثر رومانسية من بين أنواع التفكير العربي كلّها الآن هو التفكير الديني، بلغة المؤرخ والمفكّر المغربي عبد لله العروي.
بعد المجزرة، وتباشير الهدنة، يعود سؤال المفاوضات إلى ما فوق الطاولة. ما الذي سيفضي إليه هذا الطريق المفروش بالسجّاد الدبلوماسي الأحمر، وبلا جنازات يرافقها المارش العسكري؟… وجوابنا الفوري هو أن في العتمة ما لا تستطيع أسلاك الفرح أن تضيئه، خمسين ألف شهيد ومائة ألف جريح، وطاولة مفاوضات من واشطن إلى الدوحة مروراً بالقاهرة وباريس، وترتيبات يلّفها الغموض بين لاعبين إقليميين ودوليين لا تمتثل نياتهم لمصالح الشعوب الضعيفة أو الخارجة من تراجيديات المرحلة، علاوة على أن ما يُصنَع في البعيد له لغة أخرى غير صور الفوز الباهظة عن خروج الأسيرات الإسرائيليات في مواكب تشبه الأعراس، تشهد للمقاتلين بذوقهم الإنساني الرفيع، وقدرتهم على إغضاب العدو. ودليل الغموض عن المرحلة القادمة هو ما يدور في العواصم وعلى لسان الفاعلين الدوليين، من ذلك تصريحات دونالد ترامب الذي حسم قرار الهدنة، أو وهو يقترح ترحيلاً لفلسطيني غزّة إلي دولتَي الجوار، مصر و الأردن، وتصريحات دافوس عن عودة السلطة الوطنية إلى غزّة.
تثقل الفلسطيني عتمةٌ كامنةٌ في أسئلة لم يتوقّعها: أيّ معادلة في ترتيب الهدنة؟ هل دفع الفلسطينيُّ خمسين ألف شهيد من أجل ألف أسير من أسراه، أم أنه دفع خمسين ألف شهيد لكي يُسويَّ كفّتي الميزان بين أسراه ورهائن العدو الثلاثة والثلاثين؟
يمكن للشهيد أن يجد وطناً في الجنة. لكن في احتمالات السياسة لما بعد الحرب، عليه أن يحافظ لشعب بقي بعده على ما كان لديه قبلها، بقعة أرض يموت منها، جاء بها سلام معطوب يترنّح في قرن مضى، ولكي لا يحتاج إلى استعارة حدود أشقائه في دول الجوار ليخوض حرب العودة إلى الوطن. والسياسة في الشرق الأوسط تكلّف أكثر ممّا تكلّف الحرب، لأن الحربَ عادةٌ، فيما السياسة حادثٌ جغرافي لا يد لشعوب الشرق الأوسط فيه. وتكون الحرب قاسيةً عندما تترك شعباً في ضفة الفرح، لا هو في كامل انتصاره ليرقص، ولا هو في كامل هزيمته ليفكّر.
في الحرب، يخرج شعب من تحت الأحجار وركام الخراب، في حالة فرح للعائدين من جوار القيامة، في عيونهم ضوء وتيه من رأى ما بعد الموت، ودهشة من مرَّ فوق الصراط ومن رابض في الفردوس. في السياسة، نداء آخر: لا تحمِّل الفرح فوق طاقته، قد تخدعك شعوب العالم، تريد منك أن تحمل ما فيها من عجز، وأن تكبر أكبر من الأسطورة بجسدٍ قليل، تريدك أن تدخل جنّتك في الغياب تحت الأرض نيابة عن جحيم الضمير هنا فوق الأرض. تصفّ لك حناجرها، حنجرةً خلف أخرى، حتى تصل بك ثقباً في السماء وتنفخ في الصور.
والآن، والحياة تبحث عن مستقرّ لها بين الصحراء وبين الأمل، هل يمكن لقسوة النتائج السياسية أن توضّح التباس النصر؟
«نشر بالعربي الجديد»
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 30/01/2025