عودة إلى قرار محكمة العدل الدولية حول الصحراء: الاعتراف بحقوق المغرب، وفتح الباب أمام مناورات الخصوم في الوقت نفسه
عبد الحميد جماهري
في مثل هذا اليوم 16 أكتوبر 1975 أعلنت محكمة العدل الدولية في لاهاي رأيها الاستشاري الذي طالب به المغرب حول حقه في تراب أقاليمه الجنوبية.
وهو الرأي الذي كان نقطة تتويج لفعل متواتر، داخل هيئات الأمم المتحدة، بدأ منذ تأسيس لجنة الستة مرورا برسالة الحكومة المغربية في ماي 1960، إضافة إلى احتضان اجتماعات اللجنة 17 الأممية ذات الصلة بالموضوع في سنة 1961 بطنجة، وصولا إلى طرح الموضوع في اللجنة الرابعة المسماة لجنة المسائل السياسية الخاصة بإنهاء الاستعمار سنة 1963، والذي كان بداية الطريق نحو موافقة الجمعية العامة على المسطرة التي اختارها المغرب آنذاك.
على بعد مسافة زمنية ( بالوقت والسياسة معا) تبلغ 48 سنة، يمكن العودة إلى لحظة القرار وسياقه، كما تكون فرصة لتأمل بياضاته، وما تحقق منذ ذلك التاريخ، في ملء البياضات المذكورة وفي تدبير المغرب للمفاوضات.
صدر القرار، وهو في الواقع رأي استشاري وليس قرارا للتنفيذ، وهو قرار كان وقتها مزدوجا ويبعث على قراءات مختلفة، اعترف بحقوق المغرب، ولكنه فتح الباب على مصراعيه أمام مناورات خصومه، ومما تضمنه، أن المحكمة كان لها جواب واضح على سؤال مطروح عليها: هل كانت الصحراء أرضا خلاء،( أو سائبة بمصطلح ذلك الوقت)، فإنها تقول »بلى إن الصحراء لم تكن أرضا خلاء، وهو ما يعني أنها كانت تابعة لسلطة سيادية ما، والمغرب وقتها، وحسب رأي المحكمة، كان هو الدولة الوحيدة في شمال غرب إفريقيا، وله تماس جغرافي مع الصحراء، وبالتالي فإن هذه السلطات لن تكون إلا. مغربية.
يضاف إلى ذلك أن الفقرة الثانية تزكي ما سبق استنتاجه، وهو وجود بيعة بين السلاطين المغاربة وقبائل شمال الصحراء «الثكنا« أساسا” وبالتالي فإن هذه الروابط هي تجسيد السيادة في الفلسفة السياسية للدول في زمنها..
وغير ذلك فإن الجزء المتعلق بالسيادة الترابية تجتهد فيه المحكمة بمنطق آخر غير المنطق المتعلق بحسم سؤال الأرض الخلاء.
ففي السؤال المتعلق بالسيادة القانونية بالشكل الأوروبي تجيب المحكمة بالسلب، هذا الفخ هو ما تنبهت إليه النخب المغربية في الحكم وفي المعارضة معا، متمثلة في الاتحاد، باعتبار أن جواب المحكمة قد »يؤثر على تطبيق مبدأ تقرير المصير وتعبير السكان عن إرادتهم«.
والواقع أنه كان هناك سجلان في معالجة الموضوع : سجل الدولة الوطنية كما عاشتها أوروبا وتريد فرضها في تفسير قضية المغرب وسجل الدولة الإمبراطورية الإسلامية التي كانت لها أشكالها الخاصة في السيادة…
ومن عناصر تلك الفترة، موقف عبد الرحمان اليوسفي باسم الاتحاديين الموجودين في المنفى وقتها، وهو موقف استشرافي نبه فيه إلى» معركة تأويل ضارية سيحاول خصومنا أثناءها التركيز على ما جاء في رأي المحكمة من حيث تقرير المصير، ومن نفي السيادة المغربية«…
ولعل الفترة الفاصلة كلها كانت مجابهة ومعركة حول ما تنبأ به الفقيد الكبير، لهذا ظل المغرب مستعدا بجدية للمعركة السياسية في الأمم المتحدة لتوضيح الحقوق المغربية الواردة في الفقرة 162 من رأي المحكمة .
الاتحاد تنبه إلى المعركة الضارية، ولكنه في الوقت نفسه نبه إلى أن المحكمة لم تشر لا من بعيد ولا من قريب إلى أي استفتاء، وإنما إلى تصفية الاستعمار وتقرير المصير، وهو، كما هو معلوم، يتم بأكثر من طريقة، كما دلت على ذلك تجربة الأمم المتحدة … نفسها.
وفي مقاربة اللحظة، من زاوية تشكل الدولة المغربية ودفاعها عن ترابها، يرى باحثون جدد كثيرون بأن المرافعات المغربية أمام المحكمة تمثل نموذجا ومثالا في استحضار التاريخ (المخيال التاريخي للوهلة نفسها)، في الجمع بين مكونات شرعيتها متباينة مع استحضار ترسانة مفاهيمية وثقافية تتعايش فيها…
لقد كانت اللحظة مفارقة أيضا، حيث ما زالت العلوم السياسية العالمية تحاول فهم قدرة المغرب على الجمع بين استراتيجيات متعددة في توفير السند القانوني لحقه في ترابه، وقدرته في جمع ترسانة هي بدورها، مرجعياتها ومنطقها، متأنية والحال أنه «وقتها كانت حظوظ المغرب حظوظا جد محدودة»، يقول الباحث محمد الطوزي.
كان المناخ والخيال السياسي الدولي في تلك الفترة يميلان إلى مفاهيم تقرير المصير وتصفية الاستعمار بمرجعيات تكاد تكون كلها حديثة، بعيدا عن مفهوم الطبيعة، وما تحيل عليه من دولة الخلافة، وبعيدا عن الدولة السلطانية، التي كانت أغلبها قد لقيت نهايتها قبل الفترة الاستعمارية وميلاد الأمم المتحدة والهيئات الدولية ومنها محكمة لاهاي…
ولعل من مظاهر التدبير الحذر للملف من طرف المغرب هو أنه استند على وثائق عديدة بطابعها الشريف والإمبراطوري، بدون الإحالة على الدولة السلطانية إلا بخصوص البيعة القائمة ..واستعمل الوثائق لإثبات »أحقيته في التراب بوجود ممارسة متواصلة للسلطة« على المنطقة المعنية بالنزاع… وهو في ذلك استند على المبدأ الذي دافع عنه بكون» البنية الخاصة للدولة، التي تطالب بسيادتها على تراب معين، يمكن أن تكون عنصرا يجب أخذه بعين الاعتبار للحكم بحقيقة تمظهرات أنشطة الدولة التي تثيرها كحجج ودلائل لهذه السيادة..».
وبالرغم من أن مرافعة المغرب لم تتعمق كثيرا في استخدام هذا المبدأ والحجة لكنه استطاع الاعتماد على مفهومي بلاد السيبة وبلاد المخزن في تفسير ثنائية وجود الدولة وعدم وجودها في الوقت ذاته.
والحق أن هذين المفهومين لا يثيران الفصل بين الدولة ومواطنيها بقدر ما يثبتان طريقة تدبير الحكم وليس تدبير السيادة…
تلتقي العديد من الكتابات حول هاته الفترة بأن المغرب لم يحسن استعمال تاريخه الخاص أو بنية الدولة الخاصة به بل ظل سجين الدولة الوطنية…
ثانيا، أصر الملك الراحل على إعلان المسيرة في اليوم نفسه، ولعل ذلك كان يعني بالنسبة للمغرب، والملك يعلن تنظيم المسيرة، الإحالة على الوازع الوطني أي راية المغرب والوحدة الترابية والحدود، كما كتب عبد لله العروي في الموضوع، واستحضار السجل الديني والبعد الرمزي لتكون «المسيرة تعبيرا عن السيادة وممارسة السلطة»…
والمسيرة التي كانت الرد الأكثر وطنية على التباس قرار المحكمة فتحت الباب أمام مسيرة بناء الحجج المغربية وملف بياضات القرار، عبر بناء السيادة بمقومات الدولة الوطنية الحديثة التمثيلية الديموقراطية والحدود والسلطة المباشرة … وتحقيق الوجود الفيزيقي للدولة بحضور الإدارة والحدود والتراب والوحدة الوطنية حول الملك والملكية «إلى درجة أنها تظل إلى حدود اليوم رمزا مؤسسا للوطنية الملكية المغربية»….
يتبع
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 16/10/2023