عودة الدبابات في إفريقيا:الإرهاب والانقلاب!

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

تقف ثلاثية الفساد والإرهاب والفقر في قلب معادلات الحكم في جسم القارة الإفريقية، التي مالت بعض دولها إلى إعادة إحياء الوصفات العسكرية للبحث عن حلول، أو ادعاء ذلك. في ثلاث دولة حديثة العهد بالانقلابات، هي مالي وبوركينا فاسو وغينيا…
ويبدو أن الجماعة الجهادية، سواء أكانت قد بايعت الدولة الإسلامية« داعش» أو «القاعدة» في هذه الدول، قد أصبحت عود الثقاب الذي يشعل فتيل الانقلابات …
فقد استقرت مع‮ ‬جائحة كوفيد،‮ ‬نزوعات كانت إفريقيا تعتقد بأنها ودَّعتها إلى‮ ‬غير رجعة،‮ ‬هي‮ ‬عودة العسكرية‮.‬.. ففي مالي عاشت البلاد انقلابين اثنين منذ غشت 2020، وتلتها غينيا في شتنبر 2021، ثم انقلاب بوركينا فاسو، الذي افتتحت به البلاد السنة الجديدة في يناير 24 يناير.. ، وفي جوار آخر عرفت تشاد نفس الحل العسكري لتناقضاتها في أبريل 2021…
لعل زوايا المقاربة قد تغلب أحد عناصر المعادلة على الباقي، لكن المشترك الذي يجمع عليه المراقبون هو أن منطقة غرب إفريقيا، كانت من بين دول القارة التي استقر فيها، على الأقل شكليا، التداول الديموقراطي، ونوع من استمرارية الحياة المدنية السياسية، المبنية على التعددية والاحتكام إلى القاعدة الدستورية، بحيث تحمل التقارير أن غرب إفريقيا صارت فيها المعايير الديموقراطية منظومة شبه عادية…
والواضح أن الديموقراطية لم تصمد طويلا، ولا العقوبات التي قررتها المجموعات الإقليمية أو الدولية لم يكن لها الأثر المتوخى…
ولعل ذلك يكمن في كون الأسباب المحلية التي يشعر بها المواطنون والجنود كانت حاسمة، ولم تأخذ بعين الحسبان حسابات الخارج، على الأقل في الجانب العلني …
ولا يمكن أن يخفى عن المحللين وجود أبعاد جيواستراتيجية، فإذا كان لكل بلد خصوصيته فإن المشترك الناظم للعودة السياسية للعسكر، يكمن في جزء منها في تآكل النخب وتهلهل الدول…
وقبل إدراج الإرهاب الجهادي في التحليل، يميل الكثير من معاهد البحث والمحللين إلى تسليط الضوء على واقع الحال المؤسساتي.
والمشترك بين الرؤساء المطاح بهم، هو أنهم كلهم رؤساء منتخبون، بعضهم لم تمض عليهم سوى شهور قليلة، كما هو حال «ألفا كوندي» في غينيا، الذي تلت انتخابه احتجاجات عديدة..تحولت إلى انتفاضة ثم إلى تدخل عسكري.
وفي بوركينا فاسو انتخب الرئيس كابوري انتخابا ديموقراطيا حقيقيا في 2015، لكن الذي حدث أن تنامي العنف ومظاهر الفساد تسببا في «قضم» شعبية الرئيس..وتسهيل الانقلاب عليه.
وهناك أخطاء قاتلة عطلت بها النُّخبة المدنية دينامية تقوية الحياة المدنية السلمية التي أوصلتها إلى كرسي السلطة.
وأول هذه الأخطاء التغيير الدستوري لأجل الاستمرار في الحكم، الذي يعتبر الرئيس «كوندي» نموذجه الخاسر.
أضف إلى ذلك، النزوع نحو التضييق على المعارضين، والذي وصل حدَّ اعتقالهِم.. وهو ما جعل الكثيرين، ومنهم مراقبون أمميون يتحدثون عن «السراب الديموقراطي»الذي اجتاح الشارع وأعطاه العسكر دلالاته المؤسساتية، ذلك السراب الذي كشف أن الشعوب في هذه الدول لم تعد تقتنع بأن التصويت والاقتراعات لهما أثر على حياة الناس أو يمكنهما أن يساعدا في تقليم أظافر العنف الجهادي…
وفي علاقة مركبة وشرسة بين الإرهاب والانهيار الديموقراطي، هناك شعور لدى الجنود بأن السياسيين منشغلون بتوازنات المصالح أكثر من الإنصات إلى مخاوف الناس، وهو ما غذى الشعور بأن السياسيين…. تخلوا عن الجيوش! على حد تعبير «أورنيللا موضيران»، الباحثة والمحللة في مجموعة التفكير التابعة لمعهد الدراسات الأمنية في تصريح لقناة تي في 5 الفرنسية..
فالإرهاب والعجز الواضح للدول ورؤسائها في تأمين حياة بدون جهاديين في مالي وفي بوركينا فاسو.. وهو ما يدفع الجنود والضباط في المستويات الدنيا، إلى الثورة مع شعور قاس بالعجز عن المواجهة مع عدو شرس ومدرب ومسلح ويحذوه إيمان فظيع بضرورة التوحش، هو جيش الإرهابيين …
وقد اتضح العجز في شمال وشرق البلاد في بوركينا فاسو عبر مغادرة أكثر من مليون بوركينابي لمناطقهم مع إغلاق المدارس والمستشفيات والهجرة إلى العاصمة…
بعض الدول التي عرفت الانقلاب، مثل مالي، استعادت بعضا من أمنها بفضل التدخل العسكري الفرنسي وقوات دول غرب إفريقيا
وتلا ذلك السيطرة العسكرية على المرحلة الانتقالية، وتبييضها لفائدة قادة الجيش بعد أن كانوا قد أعلنوا التزامهم بالعودة إلى المسلسل السياسي…

ولعل التجربة المالية هي الأكثر تعبيرا عن قطاع المحلي بالجيواستراتيجي، باعتبار التدخل العسكري الفرنسي والأوروبي.
وقد تباينت المقاربات بين العسكر والدولة الفرنسية في تأمين هذا التدخل، ولم تتردد باريس والعواصم الأوروبية في التصريح العلني بأن الأمن في مالي شأن أوروبي، وفرنسي خصوصا.. وفي‮ ‬منطقة تعد منصة دولية وجيواستراتيجية هامة للقارة وللشركاء في‮ ‬القارات الأخرى، يكون لكل قرار يتخذه العسكر ترددات في أروقة اتخاذ القرار.
وفي هذا فقد حذرت باريس بأنه لم يعد بإمكانها مع شركائها الأوروبيين الحفاظ على الوضع في هذا البلاد على ما هو عليه.
وقال وزير خارجيتها جان إيف لودريان إنه «نظرا لانهيار الإطار السياسي والإطار العسكري في مالي لا يمكننا البقاء على هذا النحو»، منددا بـ»العقبات» المتزايدة بوجه مهمة «القوات الأوروبية والفرنسية والدولية».
ومن مظاهر التنافس الجيواستراتيجي الذي تحكم أيضا في الحل العسكري، وجود قوة مسلحة محسوبة على روسيا في المنطقة، بعد أن تم اتهام المجلس العسكري بالاستعانة بمرتزقة «فاغنر» العسكرية الروسية. المجلس العسكري نفسه أعاد النظر في الاتفاقات الدفاعية مع باريس، وطلب مؤخرا من القوات الدنماركية المشاركة في قوة «تاكوبا» الأوروبية التي تقودها فرنسا مغادرة البلاد، وهو ما اعتبرته عدة مصادر فرنسية مطلعة على الملف «إهانة».
ومن المنتظر أن تتخذ الدول الأوروبية، خلال الأيام الـ14 المقبلة، قرارا حول «الشكل الذي ينبغي أن يتخذه مستقبل مكافحة الإرهاب في الساحل»، بحسب ما نقلت وكالة «ريتساو» الدنماركية بعد اجتماع عبر الإنترنت لوزراء الدول المشاركة في قوة «تاكوبا» التي تنشر 800 عسكري في مالي.
ويعقد الانقلاب في‮ ‬بوركينا فاسو المعادلة الباريزية في المنطقة لباريس‮. كما كتبت وكالة«فرانس بريس»، الناطقة شبه الرسمية باسم قصر «الإليزيه»، والسبب في ذلك أن ثلاثا من الدول الأربع في‮ ‬منطقة الساحل التي‮ ‬تنتشر فيها قوة «برخان» الفرنسية المناهضة للجهاديين،‮ ‬تخضع لحكم سلطات عسكرية‮… ومع صعود مشاعر معادية لفرنسا في المنطقة، تعيش هذه الأخيرة كابوس فقدان أحد معاقلها الجيوسياسية في القارة الإفريقية، لاسيما وأن «أوغندا» قد نجحت في مسيرتها بعد انفصالها عن باريس وقدمت النموذج للعديد من النخب ومنها النخب العسكرية!
ومما يؤكد أن الجهاديين في طور تغيير الخارطة السياسية في المنطقة وتوازناتها الخارجية أن دول ايكواس دخلت على الخط. وفي نفس اليوم الذي عبرت فيه أوروبا عن قلقها قرر مؤتمر رؤساء دول وحكومات مجموعة الاقتصاد لدول غرب إفريقيا (إيكواس) المنعقد بشكل استثنائي تعليق عضوية بوركينا فاسو في جميع مؤسسات المجموعة وطالب الجيش بعودة فورية للنظام الدستوري. وأدان المؤتمر «بشدة هذا الانقلاب وأعرب عن قلقه العميق من تجدد الانقلابات العسكرية في المنطقة».. وهو ما يقودنا إلى سؤال طرحته يومية «لوموند» الشهيرة، وهي التي عادة ما تصطف مع «الكي دورسيه» مقر الخارجية في قراءة المصالح الفرنسية في إفريقيا: على من الدور؟
الدولة التي تعيش بالقرب من الحريق العسكري هي النيجر.. التي تشترك مع الدول الأخرى في قوة الوجود الجهادي، وتفكك النخبة وتزايد مسار التعفن في الدولة..
هذه الدولة أعلنت أنها لن تستقبل هذه البعثة على أراضيها… وهو ما سيزيد من الصعوبة الجيواستراتيجية لفرنسا..
خلاصة القول، يبدو أن الجهاديين يغيرون من معادلات غرب إفريقيا ودول الساحل، ويُضعفون التواجد الفرنسي، ويخلقون شروط الانقلاب على الديموقراطية..
هل تولد أفغانستان أخرى في المعقل الفرنسي… سابقا؟

ملحوظة:
(صادف نشر هذه الزاوية يوم الثلاثاء 01 فبراير بـ «العربي الجديد» وقوع انقلاب آخر غينيا بيساو).

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 03/02/2022