عودة المكبوت بين المغرب وفرنسا

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

قد يُقرن مصطلح «عودة المكبوت» تداولياً بالتحليل النفسي، باعتباره جزءاً أساسياً في بناء النظرية الفرويدية في تحليل الشخصية، لكنّه بات يكتسب في محطات دبلوماسية عديدة قوة تأويل سياسية في فهم العلاقة بين الأطراف المعنية به. ولطالما عاد المكبوتان، الديني والإثني، بقوة، في تفسير محطّاتٍ من التاريخ المعاصر للعالم، كما حدث في عودة البعدين، الثقافي والإثني، في تفسير إرادة التحرير في أوروبا الشرقية التي ضغطت عليها العلمانية الأُحادية القاسية في العهد الستاليني، أو في تفسير البعد العقائدي للانقلاب الاستراتيجي الذي قادته حركة الإسلام السياسي عبر العالم منذ نجاح ثورة الخميني وتقوية النسيج السنّي للسياسة من بعدها.
بهذا المعنى، نستعيد مفهوم «عودة المكبوت» في الإطلالة على بعض من أدبيات الحقل السياسي المغربي، في علاقته مع فرنسا عبر التصريحات والمواقف والأفعال، فقد تحدّث قادة سياسيون وإعلاميون مغاربة عن العقدة الاستعمارية الاستعلائية التي تطبع تعامل الفرنسيين (وإن كانوا من جيل جديد سمته «واشنطن بوست» جيل «الخيال السياسي» المصنوع بقوالب الحداثة العابرة للقارّات) مع القضايا الوجودية والمادية للمغرب.
لم تتردّد القوى السياسية المغربية، بكلّ مشاربها، يسارية ومحافظة وليبرالية، ولا الصحافة بكلّ خطوطها التحريرية، في اتهام فرنسا رسميا بالوقوف وراء القرار الأوروبي الصادر عن برلمان القارّة العجوز بإدانة المغرب في قضايا متباعدة، اختلط فيها الاعتقال في حقّ صحافيين متابعين وقضايا رشوة برلمانيين أوروبيين، والتنصّت بواسطة برامج بيغاسوس الشهيرة. والنخبة المغربية والرأي العام اعتبرا أنّ القرار، الذي تحالف تحت لوائه بعض أصدقاء المغرب القدامى، ولا سيما الفرنسيين منهم، وتعبَّأت له عداوات قديمة، أمثال اليسار الراديكالي واليمين المستجدّ، ليست له طبيعة إلزامية، ولا يتعدّى تأثيره توفير مناخ إعلامي مناهض للمغرب، لكنّه مع ذلك، فجَّر أسئلةً سياسيةً عميقةً كان قطبها المركزي في الفهم المغربي هو فرنسا، والحماس الزائد الذي تحرك به ممثل حزب الرئيس إيمانويل ماكرون (النهضة) ومستشاره السابق ستيفان سيغورني داخل البرلمان الأوروبي!
تمثلت عودة المكبوت في القاموس المتداول أولاً، حيث لم يكن التحليل الموضوعي، والاصطلاحي المبنيّ على تناول الوقائع وموازين القوى والمصالح الموزّعة بين الدول، لم يكن وحده كافياً في تفسير التحوّل الفرنسي الجديد، وفي تحليل لعبة التوازن التي يحاولها الرئيس ماكرون منذ مدّة بين أقطاب المغرب الكبير، وفي أفريقيا جنوب الصحراء، بل تمثَّل في تعبئةٍ غير مسبوقة للذاكرة المغربية ضد الاستعمار وما اقترفه الأخير في الفترة الكولونيالية. واستعادت منابر كثيرة المحطات القاسية والعمليات الوحشية التي خضع لها المغرب في فترة «التهدئة»، كما سمّتها أدبيات الاستعمار الفرنسي. وتعالت المطالبة باستدعاء الشراسة الفرنسية الاستعمارية لتفسير التحوّلات السياسية الجارية.. ‫(‬جريمة الشاوية، وسط المغرب، وإحراق ساكنتها، والتي نالت حظا وافرا من التسجيل التاريخي والاستحضار الراهن).
ولعل استثمار الذاكرة في تطعيم الشعور الوطني الحالي يجد سببه أولا في أن اللحظة الوطنية، ونعني بها العمل من أجل استكمال الوحدة الوطنية واستكمال الأجندة المتعلقة بتحرير كامل التراب، ما زالت هي اللحظة الحية المهيمنة على المخيال الوطني، بالرغم من مرور 67 سنة على الاستقلال، وهي تمثّل جدول أعمال دائم في الوعي السياسي للشعب المغربي. ويجد الأمر نفسُه سببه ثانيا في أنّ فرنسا لم تتجاوز نفسها قوةً تعتبر سياستها مهمة حضارية لفائدة دول «الأهالي»، بالرغم مما تتلقاه يومياً من صفعات في الدول الأفريقية التي كانت تعدّها إلى عهد قريب «محمية» لها.
ثالثا، أشعلت فرنسا نفسها هذا البعد في تنشيط الذاكرة المغربية، عندما اعتبر ماكرون اللحظة «ديغولية» (نسبة إلى الجنرال ديغول)، وهو يقدّم قانون البرمجة العسكرية 2023 – 2030، ويعني به الميزانية العسكرية. وقد افتخرت فرنسا، أخيرا، بأنها وضعت أضخم «قانون برمجة عسكرية» في الصحراء قبل استقلال الجزائر في 1960! وهو ما لم يغب عن مغاربة كثيرين في التعليق على هذا الاستدعاء الفرنسي لذاكرة الجنرال.. ولأن التاريخ لا يتغيّر إلا إذا تغيّرنا نحن في قراءته، فقد ووجه استدعاء تاريخ ديغول بتاريخ حضوره السلبي في الذاكرة المغاربية. وقد سبق لكاتب هذه السطور أن أشار إلى أن ديغول قد علق على الحرب المغربية الجزائرية في 1963 بعبارته «اتْركوا العرب يتقاتلون فيما بينهم»، وقال: «سنساعد المغاربة بتمكينهم من الأسلحة، ونساعد الجزائريين بوضع مطار كولومب بشار رهن إشارتهم، وهكذا نساعدهم على الاقتتال، ونحن نتصرّف كما لو أننا محايدون». وعندما طلب منه وزيره في الخارجية والناطق باسم الحكومة في ستينيات القرن الماضي، آلان بييريفت، الإعلان رسميا عن هذا الحياد، رفض الأمر معللا رفضه بالقول: «على كلٍّ، هذا غير صحيح».
لم يغفل المتتبعون أيضا قاموس الخارجية المغربية في تفسير الهجوم الأوروبي على المغرب، عندما استدعى اصطلاحات تمتح من حرب الذاكرة، وهو يشير إلى أن المملكة صارت تزعج أطرافا يقلقها «المغرب الذي يتحرّر»، أي المغرب الذي يدافع عن استقلالية قراره وعن مواقعه على خريطة التحالفات، شرقا وغربا وعلى امتداده في القارّة الأفريقية من دون ترخيص من جمارك العهد الجيوستراتيجي السابق.. المبني على توزيع دولي للعمل، يجعل القوة الاستعمارية القديمة تنتظر «خِراج» المستعمرات السابقة، في استرجاعٍ لقصة هارون الرشيد في متون التراث، عندما شاهد سحابة مثقلة بالمطر، فقال القولة التي سارت بها الألسنة «أمطري حيث شئت، فإن خراجك لي». وهو الشعور الذي يشعر به المغاربة الذين يجتهدون في توسيع رقعة نشاطهم في القارّة السمراء والعالم، فيما تريد باريس أن يعود إليها خِراج ما يُمطر على المغرب!
كان المحلل النفسي الشهير، جاك لاكان، قد أعطى تعريفا مباشرا لعودة المكبوت، عندما وصفه بعبارة مفادها «يكون الكلام، حيث يكون الألم». والألم هنا هو في الإصرار الفرنسي على تذكير المغاربة بأن باريس ما زالت القوّة المتحكّمة في مصيرهم، وأن عليهم القتال من جديد بوسائل الدبلوماسية الحديثة والاقتصاد الحديث لتحرير قرارهم. ولعل من مظاهر هذا السلوك الفرنسي المتعالي أن زيارة وزيرة الخارجية الفرنسية، كاترين كولونا، الرباط أخيراً، عبّرت عن صمِّ باريس أذُنيها عن مطالب المغرب الترابية، والتصرّف كما لو أنها وحدها قادرة على إنهاء سوء الفهم وقت ما شاءت، وبالطريقة التي أرادت، وهو سلوكٌ لم يستسغه المغرب، فيما أكّدته باريس من خلال التعبئة الكبيرة لنواب حزب الرئيس ماكرون، من أجل استصدار قرار البرلمان الأوروبي الذي جاء بعد الزيارة، والذي حرّك مياه الذاكرة العميقة لكل الأجيال المغربية!

نشر بالعربي الجديد يوم 2023.01.31

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 02/02/2023

التعليقات مغلقة.