قراءة مغربية لقرار الجزائر قطع العلاقات

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

قرّرت الجزائر قطع علاقاتها مع المغرب، واختارت بذلك الرد السلبي على دعوات جارها الغربي، المتضمَّنة في كل خطب الملك محمد السادس، لعل أهمها خطاب العرش، أخيرا، وخصص جزءا كبيرا منه لتفعيل اليد الممدودة وطي صفحات الخلاف الثنائية. وفي تبريرها القرار، لم تنس دبلوماسية الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، أي جملة من سرديات الماضي والحاضر التنازعية، بدءا من حرب الصحراء في 1963 إلى تصريحات ممثل المغرب في الأمم المتحدة، عمر هلال، الذي تناول فيه، من باب السجال، حق منطقة القبايل الجزائرية في تقرير المصير. وقد بلغت الاتهامات التي تضمنها بيان وزير الخارجية، رمطان لعمامرة، كل أصناف الخطاب، من الاحتجاج إلى المحاججة والمبالغة السريالية، كما حصل عند اتهام الرباط بوقوفها وراء الحرائق التي التهمت غابات جبال ولايات عديدة، منها ولايات القبايل!
لم يفاجئ هذا التصعيد الرباط التي ردّت ببيان مقتضب، وواضح وسريع، اعتبرت فيه أن القرار «أحادي، وغير مبرر ومتوقع». ولعل الذين يتابعون العلاقات منذ مدة سيفهمون، من هذا الاقتضاب، سعة الشرخ بين التوجّهين المتحكمين في المواقف بين الرباط والجزائر، فالمغرب باعتباره القرار أحاديا يريد أن يتخندق من جديد في منطقه الذي يدعو إليه منذ مدة، منطق اليد الممدودة والانفراج، وبالتالي لا يعنيه منطق التأزيم الذي اختارته الجزائر، وهو يلزمها وحدها. والقرار في رأي الدبلوماسية المغربية غير مبرّر، باعتبار أنه لا يقدّم أي تسويغ عقلي ومنطقي ومقنع في ما تلاه رمطان لعمامرة من أسباب، بعضها يعود إلى التاريخ وبعضها يجاور العبثية، من قبيل إشعال الحرائق وجرّ إسرائيل إلى مغامرة خطيرة ضد الجزائر. وهو متوقع، من جهة أخرى، لأنه يندرج في زاوية القراءة التنازعية التي تقوم بها دبلوماسية الجار الشرقي منذ تولي تبون رئاسة الدولة وتولي رمطان لعمامرة مسؤولية الخارجية في البلاد، ومحاولة لحم أجنحة النظام التي انفرطت عراها بخصوص إدارة مرحلة ما بعد عبد العزيز بوتفليقة.
جاء القرار الجزائري حيث يخرج المغرب سالما من ثلاث أزمات حقيقية مع جيرانه وحلفائه الأوروبيين
الواقع أن القرار الجزائري، قطع علاقات كانت تراوح مكانها، يعني قطيعة مع واقع الحال «ستاتيكو» في منحى أكثر سلبية، وتتداخل فيه سياقاتٌ عديدة. فقد جاء القرار سباحة ضد التيار في غرب المتوسط، سيما في الشق الأوروبي، حيث يخرج المغرب سالما من ثلاث أزمات حقيقية مع جيرانه وحلفائه الأوروبيين، سيما مع إسبانيا وفرنسا، في حين تبقى الأزمة مع ألمانيا قيد التعليق (انظر للكاتب في «العربي الجديد» مقال «هل يستطيع المغرب إدارة أزمتين كبيرتين في الوقت»). والسباحة ضد التيار، في غرب المتوسط، تأتي من أن الجزائر اختارت الذهاب بعيدا في توتير العلاقات مع المغرب، بعد خطاب الملك في ذكرى «ثورة الملك والشعب» في 20 غشت المنصرم، وهو الخطاب الذي طوى صفحة الأزمة مع إسبانيا، على أسس جديدة في ما بينهما. وهو قرار صفقت له الحكومة الإسبانية «بامتنان»، كما صرح رئيسها بيدرو سانشيز، فقد قال في لقاء صحافي في قاعدة جوية مع رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، ورئيس المجلس الأوروبي، شارل ميشيل، إن خطاب الملك يشكل فرصة سانحة لإعادة تحديد الركائز والمعايير التي تؤطّر العلاقات بين إسبانيا والمغرب، مضيفا أن «المغرب وإسبانيا حليفان وجيران وأصدقاء». وسار المسؤولان الأوروبيان الآخران على النهج الاحتفائي نفسه بخطاب ملك المغرب، وهو موقف انفراج كبير، إذا علمنا أن جزءا من الأزمة بين مدريد والرباط تمت معركته على أراضٍ أوروبية ومن داخل البرلمان الأوروبي.
اتخذت الجزائر قرار القطيعة مع المغرب في سباحة ضد التيار، بالنظر إلى الدور الذي يجب أن تلعبه دول المغرب الكبير
وعلى المستوى الفرنسي، كانت قضية ما أصبحت تعرف بـ «بيغاسوس»، فرصة للتوتر بين جزء من نخبة فرنسا والمغرب، اتخذت شكلا غير مسبوق، عندما تم اتهام المغرب بالتجسّس على الرئيس إيمانويل ماكرون! غير أن هذه القضية سرعان ما ذابت كندف ثلجٍ بعد شمس. وكان لافتا أن الملك محمد السادس ركّز كثيرا في خطابه أخيرا على العلاقات الممتازة بينه وبين الرئيس الفرنسي، ودعا الأخير إلى رفع مستوى العلاقات.
واتخذت الجزائر قرار القطيعة مع المغرب في سباحة ضد التيار، بالنظر إلى الدور الذي يجب أن تلعبه دول المغرب الكبير في هذا المنعطف الخطير من تاريخها. وإذا كان المغرب قد دافع عن دول المغرب الكبير، في خطابه أخيرا، واتهم دولا أوروبية بقِصر النظر في علاقتها معه، فقد اختار قصر المرادية (الرئاسة الجزائرية) النظر إلى مكان آخر، ولم يأخذ في الحسبان أن المنطقة على كرسي هزاز جيوستراتجي، قد يفضي إلى ما لا تُحمد عقباه، فالوضع في تونس صار غير مستقر، ومفتوح على كل الاحتمالات والتدخلات، والوضع في ليبيا لا يتقدّم كما يلزم، والمصالح الدولية تتراءى للعيان، وعواصم عديدة، في الجوارين، القريب والبعيد معا، تلعب في الأوراق الداخلية، ولا تتردد في تشجيع الانقسامات، ليكون لها موطئ قدم في المنطقة.
كان المتوقع الذكي والنبيه أن تختار النخبة في الجزائر إعادة تأطير دبلوماسيتها على قاعدة التقارب المغربي الجزائري والتعاون المغاربي
والوضع في الجزائر نفسه لا يسوّغ قطع العلاقات مع الجيران. وهذا أمرٌ يقر به الجزائريون أنفسهم في الشارع، كما في النخبة، وكان المتوقع الذكي والنبيه أن تختار النخبة في الجزائر إعادة تأطير دبلوماسيتها على قاعدة التقارب المغربي الجزائري والتعاون المغاربي، لا على تنشيط متلازمة «العدو الخارجي الدائم» ممثلا في المغرب، فالوضع الذي تتناقله وسائل التواصل الاجتماعي، أو الذي تشير إليه تقارير المنظمات الدولية المالية وهيئات عالمية والشركاء الأوروبيون أنفسهم يكشف انهيارا فظيعا في المنظومة الاقتصادية، وعجزا بنيويا في إنقاذ البلاد، حتى من ضمان أساسيات الحياة اليومية أو مواجهة الوباء. ولا يمكن أن يمرّ هذا الوضع من دون آثار وخيمة على المنطقة، سواء شمال إفريقيا أو غربي المتوسط، بما فيها فرنسا وإيطاليا وإسبانيا التي أدركت بعد الأزمة أن مصالحها لن تكون إلى جانب نظام يترنح، ويعجز عن ضمان سلامة شعبه الصحّية في زمن الجائحة.
ختاما، في وقت يُشهدُ المغربُ العالمَ على سعيه إلى التقارب، وتقديم قراءة جيو – استراتيجية بروح مغاربية، ينحو النظام العسكري الجزائري إلى سياسة الأرض المحروقة. وقد كتب باحث في الشأن المغاربي أن «الدبلوماسية لا تناسب الجيش»، ذلك أنه يميل إلى مفاتيح الصراع والمواجهات. .. وعليه، نفهم جيدا لماذا يردّد الشعب الجزائري: «مدنية مدنية، ماشي عسكرية»، وهو يقصد الدولة في بلاده.

نشر بالعربي الجديد

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 08/09/2021