لا حق لنا في إعلان النصر، ولا حق لنا في إعلان الهزيمة..

عبد الحميد جماهري

هي هدنة لإلقاء السلام على من بقي من الموتى تحت الأنقاض،
ولا أحد سيعاتب الشهيد إذا صادفه ينتظر دوره من بين العشرات من الآلاف من الشهداء ليغسل دمهم في وادي الدموع الفلسطينية الطويل. بعد أن غادرت الطائرات سماءه..
سيأتي دور الأحياء من بعد..
وفي انتظار أن ينشط الألم في شرايين الأرامل والثكالى واليتامى.. والمعطوبين، لا أحد يمكنه أن يشغل الذين عادوا إلى الحياة، من جحيم الوحشية الإسرائيلية، عن فرحتهم وركضهم سعداء إلى ضفاف الحياة التي استعادوها من تحت الأنقاض والوحشية.. والتطهير.
سأعتبر صمت الموتى موافقة منهم على أن أحاول التفكير بعقل من ظل حيا بعيدا عن المجزرة، عن الإبادة .عقل شله الألم الفظيع لما وقع.
بعيدا عن الذين عادوا إلى فضيحة الحياة في عالم الظلم واللاإنسانية ليستريحوا ويستريح القاتل من عقدة الضحية بالتوقيع على اتفاق تحت إشراف ثلاثي!.
هي هدنة بعد دمار هائل، سمحت بعد سنة وثلاثة أشهر من الجحيم، أن يجلس القاتل والقتيل تحت نيران الاعتراف ببعضهما، وتحت إشراف الوسيط المتعدد التسمية.
أزيد من 467 يوما من هيروشيما يومية..
كانت كافية لتغير مسارات الحرب على غزة…
وعلى شعب فلسطين فيها وفي جوارها في الضفة.
للذين يستقبلون القتلى والشهداء باسمين بفرح زائد، ستحين مرحلة النظر السديد في ما وقع وما تحقق، ولكن المشاهدات اليومية الآن تكتفي بتحمل الفرح الفلسطيني لشعب يخرج من تحت الأنقاض ويلوح للحياة أن تعالي، ولا تخافي، هذه الليلة لن يكون قصف، وهذه الليلة سيخلو الجنرالات إلى زوجاتهم أيضا يبحثون عن سبب للبقاء بعد ذبحنا.
للذي يعرف بأنه ليس له الحق بأن يكون فلسطينيا أكثر من الفلسطينيين، أن يكتفي بمحاولة الفهم: ليس له أن يعلن نصرا وليس له أن يعلن الهزيمة..لا أحد له الحق في أن يسرق من الفلسطيني الحق الذي تبقى له في وصف حالته بعد…. قتله!
له أن يقيم في اللغة الواصفة فقط:
لقد تم الوصول إلى هذا الاتفاق بعد مسلسل من الجلسات والمفاوضات قبل وبعد الهدنة الأولى في نونبر 2023.
وتواصل هذا الباليه الديبلوماسي، في باريز منذ يناير 2024، ولمرتين، ثم القاهرة ثم الدوحة، ثم كان مقترح جو بايدن في ماي 2024، والذي يكاد يكون النسخة الأولية للاتفاق الحالي، مقترح أصبحت له قوة دولية بعد تبنيه من طرف مجلس الأمن ليتحول إلى قرار 2735، لم تلتزم به إسرائيل .. وتواصلت الحرب وتواصلت المفاوضات برعاية قطر، التي لم تحمل السلاح في وقت الحرب، لا في هذه المجزرة ولا في حروب أفغانستان، لكنها اكتسبت دربة عميقة بتدبير المفاوضات واستراتيجياتها، ومصر التي أصبحت ضامنا ديبلوماسيا للاتفاقيات، بالرغم من كل الهجوم عليها بسبب التطبيع تارة أو بسبب التطعيم الإخواني تارات أخرى. والولايات المتحدة نفسها، الطرف الأساسي في الحرب.
هذا المسار الديبلوماسي كان يوازيه مسار آخر، وهو خروج الجبهات الأخرى من الحرب.. وتهدئة الجبهة اللبنانية بعد تصفية قادة حزب الله وتدمير بنياته البشرية والعسكرية، وحصول الهدنة التي فكت الارتباط بين الجبهات.
زادت عزلة غزة، فعليا، بعد خروج إيران من وحدة القتال إلى المعالجة الديبلوماسية، وربح المعركة… بالتفاوض بجثث من ماتوا عندها أو في أنقاض بلادهم.
سقوط الأسد وخروج سوريا إلى معادلة أخرى كان من أهم مضامينها حرمان حزب الله من العتاد والتمويل والأسلحة عبر ترابها….
في الحساب الافتراضي كان لوصول دونالد ترامب عامل التحفيز الأولي: لا أحد كان يعرف طبيعة ودرجة الجحيم الممكن بعد جحيم غزة، لكنه هدد بأن عدم التوصل إلى هدنة سيفتح باب جهنم في الشرق الأوسط التي عرفها أكثر من غيره، بفعل ديانات التوحيد وبفعل الحروب وبفعل الغد الغامض.
ترامب احتفل بنجاحه وحصل على هدية، أول ثلاثة أسرى يتم إطلاقهم سيكون .. يوم تنصيبه الرئاسي.
والبقية ستأتي، ولا أحد يعرف مزاج الحرب عندما تريد أن تلتهم بأسنان من لهب أجساد الأطفال.
إلى ذلك الوقت بقي السؤال:ماذا بعد، من يحكم أنقاض غزة إلى حين إعادة الإعمار إلى ما كانت عليه قبل سابع أكتوبر؟ وهل الفلسطينيون جاهزون ليتوحدوا فوق الأنقاض كما توحد الشهداء تحتها؟
ماذا يمكن للسلام أن يفعله يا محمود؟
ولا خطوات أوسلو المحتملة؟
ولولا روحها التي ماتت، لما كانت لنا أرض نموت فوقها أو نرفع فيها راية حمراء بالدم…
فهل نعمل من أجل تصحيح السلام أم ترجيح الحرب؟ ..
كل هاته الساعات من عدم الموت، أثبتت شيئا واحدا فقط، هو قدرة الفلسطيني على التمترس في تراجيديته وقدرته على أن يثبت أسطورته!
ومع العود الأبدي … للتراجيديا ننتظر الجواب، وهو بدهي للغاية منذ 75 عاما: لا مستقبل للمنطقة والعالم معها، إذا لم يحصل الفلسطيني على دولته المستقلة وعاصمتها القدس..

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 17/01/2025