لماذا لا‮ ‬يدقّ العرب جدران الأمم المتحدة؟

عبد الحميد جماهري

تكاد وضعية العرب حالياً داخل الأمم المتحدة تشبه «رجال في الشمس» للراحل غسّان كنفاني. والسؤال الأخير، الذي كان خيالياً في الرواية هو السؤال الواقعي في الراهن الجيوسياسي، ولعلّ العرب أن يملكوا الشجاعة التي خانت الرجال الثلاثة في الخزان على الحدود بين الكويت والعراق.
تطرح التفاعلات الجيوسياسية التي أعقبت الهدنة الخاصة بالحرب على غزّة، والسيناريوهات المرافقة لها على مستوى قضية فلسطين المركزية، ودور العرب فيها، أسئلة تمسّ عمق النظام العالمي الذي تأسّس منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وفي قلبه دور الأمم المتحدة أو أدوارها، والنظام الأخلاقي الذي تأسّست عليه. وفي قلب هاته التساؤلات، نجد الانشغال المبرّر الذي يمكن تلخيصه بالقول: هل حان موعد إعلان نهاية الأمم المتحدة؟ وماذا لو أن العرب أجمعوا على إعلان وفاتها، نظراً إلى ما يخطّط لهم بعد حزب غزّة؟
لعل الأمم المتحدة أصبحت عاجزةً عن تبرير غاية وجودها باعتبارها أداة السلام العالمي التي توافقت عليها الدول بعد الحرب العالمية الثانية، وترسيم معاينة وفاة عصبة الأم التي سبقتها، وهذا العجز الذي مسّ العرب منه الشيء الكثير، ليس حديث العهد، بل تعزّز أكثر أمام حجم الخسارات الإنسانية التي حدثت في الشرق الأوسط، وفي قلبها ما عاناه الشعبان الفسلطيني واللبناني أخيراً، وقبلهما الشعب العراقي، خصوصاً. وقد تفاقمت مظاهر العجز الأممي، بعد أن ثبت، بما لا يدع مجالاً للشك، قصورٌ جماعيٌّ دوليٌّ في حماية شعب أعزل تحت القصف، وثبت معه «الكيل بمكيالين»، والتواطؤات الكبيرة المكشوفة التي اعتزت بها عواصم عديدة، (كما كتب عن حق حقوقيون دوليون وأساتذة في العلوم السياسية وخبراء جيوسياسيون، منهم بيير ميشلوتيو فريديريك لوميتر وفيليب ريكارد وباسكال بونيفاس… إلخ).
ولعلّ العرب ليسوا مجبرين على أن يكونوا قوميين، ليطرحوا سؤال المآل الخاص بأمَّتهم في هذا الانقلاب الكبير الذي يعرفه العالم. عليهم فقط أن يتابعوا ما يكتبه الغرب اليقظ والعقلاني، والذي ما زال يحتفظ ببعض الأنوار في سريرته! من قبيل الصحافي والمسؤول عن التحرير في يومية لاتريبون السويسرية، الصادرة في جنيف والرئيس السابق لمجلسها الكبير وصاحب العديد من الكتب غي ميتان، والذي لم يتردّد في إعلان موت الأمم المتحدة ويجد مسوغاته في هذا في أن كل الأحلام التي علقتها البشرية على أغصان شجرة الأمم المتحدة، منذ نهاية الحرب الثانية في طوْرها إلى الذبول.
لعل الأمم المتحدة ‬أصبحت عاجزةً عن تبرير‮ ‬غاية وجودها‮ ‬باعتبارها أداة السلام العالمي‮ ‬التي‮ ‬توافقت عليها الدول ‬بعد الحرب العالمية الثانية
والرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب هو الذي يدقّ آخر مسمار في نعشها حسب السويسري الغاضب. وفي لائحة التسويغ والتعليل، لا يمكن أن نغفل تأكيد ترامب ودعمه ضم إسرائيل الجولان، وفرضه خيارات القوة على لبنان وسورية، ثم التخطيط لتهجير شعب فلسطين من غزّة، بعد تزكية القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، وهي كلها مظاهر إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية، ومعها وجه التاريخ الإنساني في الشرق الأوسط الصعب.
من ارتدادات هاته القرارات، أن الحلول التي تقترحها إدارة ترامب في انسجام تام مع تل أبيب أن الأزمة جرى نقلها إلى دول الجوار، لا سيما الأردن ومصر، في خطوة أولى باقتراح توطين الغزّيين فوق ترابهما، بما يعني ذلك من تناقضات داخلية قد تكون لها تداعيات لا متوقعة داخل البلدين، ثم اللهجة المستفزّة والمتعالية في التعامل مع العربية السعودية، ومما ينتبه إليه المحلل، أن الدول التي تضعها سياسة ترامب في الزاوية الحادّة، هاته المرّة، هي دول لها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل (الأردن واتفاقية وادي عربة ومصر واتفاقية كامب ديفيد) أو كانت تتهيّأ لربط قيام دولة فلسطين بالعلاقات مع تل أبيب (السعودية)! والحقيقة الجامعة أن العرب في الشرق الأوسط في سلة واحدة، مهما كانت درجة قربهم أو ابتعادهم من رئيسة العالم، الولايات المتحدة، معتدلين كانوا أو في محور المقاومة!. وما يحدث بالفعل رفع سقف هاته الصداقة المكلفة لمصر والأردن والسعودية بشكل يفوق الاستفزاز.
ما بين قيادة الديمقراطيين أميركا منذ عهد باراك أوباما وكونداليزا رايس، في الموجة الأولى من الربيع العربي الذي أفضى إلى الانهيار الجماعي الأول، وقيادة الجمهوريين مع ترامب وفريقه، في الخريف الجديد، هو أن الشروط الصعبة تختلف في ظاهرها فقط، مع الحلفاء التقليديين في المنطقة، حيث انتقلنا من الفوضى الخلّاقة والحملات باسم الديمقراطية، إلى «الفوضى الخلاطة» وزعزعة الحلفاء بشكل أقوى. ولعلّ السياسة الحالية في الشرق الأوسط، باعتبارها امتداداً للحرب التي وقعت، تعني، في وجه من وجوهها، تغيُّراً عنيفاً في طبيعة التحالفات وما يراد منها. وبالضبط حصول تغيير في ما تريده القوة الأولى في العالم والقوة الأولى في المنطقة من أدوار للدولة الحليفة!
النظام الأخلاقي الذي ادّعى الغرب أنه يدافع عنه أصبح ساماً، ويثير اشمئزاز الأمم التي تعاني منه
لو كان هناك درس يمكن أن نستخلصه مما يدور في الشرق الأوسط فهو دعوة القادة العرب إلى العودة إلى تحليل الهيغيلي ـ الماركسي للتاريخ، وبناء خطواتهم على موازين القوة وفهم حركة التاريخ كما يسير الآن، على قاعدة تجاوز عقلاني للتحليل المبني، حصرياً، على القيم (من دون التخلي عن الإيمان بها فناً للوجود وسلاحاً لربح الضمير العلمي)، والمثالية في العلاقات الدولية، (من دون التخلي عن اليوتوبيا بما هي صناعة للأحلام البشرية المشتركة التي تدرأ السقوط في الانتهازية المقيتة). ولعل الأمم المتحدة هي التعبير المادي اليوم عن هذا القصور في السلام العالمي، حيث لم تعد تفيد الأمم المستضعفة في غياب «سلطة مضادّة» تلزم الدولة القوية (كما كان يحصل مع الاتحاد السوفييتي)، وما زالت طاولة مجلس الأمن طاولة القوة لفائدة الغرب، وفي غياب ممثّلين عن القارّة الأفريقية وأميركا اللاتينية والهند. ولطالما كان العرب جزءاً من الشعور الدولي المفارق إزاء الأمم المتحدة. وعليهم أن يصرخوا مع العقلاء بأن «نهاية القرن العشرين الليبرالي والأخلاقي والكوني ذي المنزع الغربي» قد أزفت.
وأن النظام الأخلاقي الذي ادّعى الغرب أنه يدافع عنه أصبح ساماً، ويثير اشمئزاز الأمم التي تعاني منه، ومنها شعوب الشرق الأوسط والقارّة الإسلامية، بل هناك شبه إجماع في التحليلات الغربية على أن «الجنوب الشامل» يتشكّل، بهذا القدر  أو ذاك، ضد الغرب الجيوسياسي والنظام المفروض منذ 1945.
«نشر بالعربي الجديد»

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 12/02/2025