محمد الحلوي: السيرة التي لا تدفن مع صاحبها -1

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

 

سيكون محمد الحلوي، الميت الوحيد فينا، الذي سنضطر إلى أن ندفعه إلى الحديث، بعد أن رفض الكلام عن نفسه وهو حي، الميت الوحيد الذي لن ندفن معه سيرته ولا صمته العنيد.
غير أن الذي يريد فعلا أن يعيد تركيب هذه السيرة، في شطرنج الحياة والسياسة، سيجد أن عليه أن يختار بين صمته وبين حياته الناطقة، من أين يبدأ….
لتكن البداية الأولى من شتنبر 1964.
ففي نونبر 1963، صدر الحكم بالإعدام على حميد برادة، رئيس الاتحاد الوطني لطلبة المغرب رفقة المهدي بن بركة..

الإعدام بناء على كومة رماد..!

وكل من يحكي عن هذه الفترة يرى محمد الحلوي، الرجل مربوع القامة، الهش جسديا، الذي يطاول القمع الأوفقيري برجاحة الأسطورة.
حدث أن محمد الحلوي، في تلك الفترة الموسومة بالاغتيالات والاختطافات والمعسكرات السرية، وجد نفسه يحمل على أكتافه مصير المنظمة الطلابية الأكثر شهرة في العالم الثالث.. إن لم يكن في العالم، لمواجهتها المعلنة لنظام الحكم، بجنرالاته الدمويين، وكما يؤكد محمد ملوك، الذي كان وقتها من مسؤولي «أوطم»، في تلك الفترة .. وهو يقول واصفا ، في الكتاب الذي أعده مركز محمد بنسعيد ايت يدر مشكورا احتفاء بالفقيد منذ سنتين، تقريبا، «أُخبرنا بأن رئيس الاتحاد الوطني لطلبة المغرب ـحميد برادة) قد هرب إلى الجزائر أثناء الحرب الجزائرية المغربية على الحدود وأخبرنا بأن الطالب محمد الحلوي هو الذي أصبح رئيسا للمنظمة، وسيظهر في ما بعد أنه طالب ذكي ويعرف الشؤون الطلابية بشكل جيد، بل ويفهم في السياسة».
اعتقل الحلوي يوم 14 شتنبر من سنة 1964، ثم أطلق سراحة بعد يومين من ذلك التاريخ، ثم سيتم اعتقاله يوم 18 شتنبر وإحالته على المحكمة ومتابعته بالمس بأمن الدولة الخارجي ومطالبة النيابة العامة بالحكم عليه بالإعدام ..
الحكاية سيرويها بالتفصيل المحامي الفرنسي الأستاذ موريس بوتان، في كتابه «المهدي بن بركة، الجنرال دوغول والحسن الثاني، هكذا عرفتهم ».
وتفاصيلها كالتالي:«في مستهل شهر شتنبر، أخبر محمد الحلوي، الرئيس الجديد للاتحاد الوطني لطلبة المغرب في أعقاب مؤتمر المنظمة التاسع المنعقد بالرباط، مجموعة من الصحفيين بمضمون رسالة وجهها إلى المؤتمرين الرئيس السابق حميد برادة، الذي عين رئيسا شرفيا للاتحاد الطلابي، وقد رأى النظام في ذلك ذريعة كافية لاعتقال محمد الحلوي في 14 شتنبر على يد ثلاثة أفراد من الفرقة الخاصة.
اقتحموا مقر الاتحاد الوطني لطلبة المغرب نفسه شاهرين سلاحهم، ودون أي أمر بالاعتقال. وفي الغد، صدر أمر بتفتيش المقر، قبل إغلاقه وبقائه تحت حراسة الشرطة. حظي محمد الحلوي بالسراح المؤقت يوم 16 شتنبر، ولكنه اعتقل من جديد في 18 شتنبر، أو بالأحرى اختطف في الطريق العام برفقة عضو من أعضاء المكتب التنفيذي: عمر الفاسي، من قبل مجهولين عمدا إلى تعصيب عينيهما قبل أن يقتاداهما إلى مكان مجهول، ثم إلى مفوضية الشرطة، وقدم الحلوي وحده للمحاكمة أمام محكمة عسكرية وأودع سجن الرباط.
وفي24 شتنبر بدأ قاضي التحقيق العسكري التحقيق «المفصل» في القضية ولم يصلني الخبر حتى الساعة الحادية عشرة صباحا، وكان زميلي الصديقي-يقصد السي محمد الصديقي- قد نصب أيضا محاميا إلى جانبي في هذه القضية، مساء ذلك اليوم، والحال أن كل الاستدعاءات التي توصلنا بها تؤكد أن التحقيقات ستبدأ في الساعة التاسعة، والحال أن عمليات تفتيش مقر الاتحاد الوطني لطلبة المغرب لم تسفر عن أي أدلة تدين المنظمة ورئيسها، لهذا فصك الاتهام الذي وضعه القاضي للأمر بالمتابعة يبين تفاهة القضية وعدم استنادها إلى أساس قانوني، قام قاضي التحقيق بتفتيش مقرات الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وعثر فيها على كومة رماد وأوراق محروقة، مما يثبت أن وثائق مفيدة تتضمن معلومات مهمة قد أحرقت، وكان من الممكن أن تشكل الرسالة المعنية والوثائق المحروقة أدلة اضافية، وتتضمن معلومات هامة متعلقة بقضية برادة.
هكذا يتهم الحلوي بالمشاركة في مؤامرة المس بالأمن الخارجي للدولة استنادا إلى كومة رماد، وقد آخذته الشرطة على عدم تسليم رسالة برادة إلى السلطات، وتتهمه بالتالي بالتواطؤ معه«.

اعتقال الحلوي.. رئيس الاتحاد الوطني لطلبة المغرب

كان طلاب الاتحاد الوطني لطلبة المغرب يتعرضون في كل مناسبة للاعتقال، وكنا نواجه كل اعتقال برد: إما تجمعات أو مظاهرات أو احتجاجات، وجاء اعتقال رئيس المنظمة: محمد الحلوي، كان الفيلسوف العميق محمد سبيلا هو الذي ركز على التصعيد، ومنذ تلك الليلة، »لا يمر يوم إلا وتجد في كل شوارع الرباط كتابات جدارية تندد بالاعتقال وتطالب بإطلاق سراح الحلوي،« ويضيف محمد ملوك بالتفصيل: “»قمنا بتجمع طلابي كبير في الحي الجامعي بالرباط وقمنا بإضرابات في مختلف الكليات، حتى أخبرنا بإطلاق سراحه، وباقتراح من الطالب حينئذ، عبد اللطيف المنوني، ذهبت إلى السجن لاستقباله رغم أننا كنا مجموعة من المختلفين معه، ولما رآني ابتسم وقال أنت الذي جئت لاستقبالي”.»…

البداية الثانية من أهرمومو…

في الثكنة العسكرية التي اقتيد إليها قادة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب من أجل أن يؤدوا الخدمة العسكرية، كان الحلوي شخصية أخرى، ليس في الأمر متاهة أدبية ولا تلصص روائي على ماض سادر في الذكرى.
ليس في الأمر تحويل سينمائي لسيناريو حقيقي، بل هو استدراج الماضي إلى الحاضر، فيه اكتسى التجنيد صيغة أكثر مجدا.
في التاسع من يونيو 1966 صدر قرار بإحداث التجنيد الإجباري بمقتضي مرسوم ملكي سيكون أعضاء اللجنة التنفيذية، وعلى رأسهم رئيس “أوطم”، في مقدمة المجندين.
كيف عاشوا التجنيد في أهرمومو، التي ستكون مركز التخطيط لانقلاب الصخيرات، بعد أقل من خمس سنوات على التجنيد الإجباري لقيادة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب؟
لم يتحدث الحلوي أبدا عن هذه الحياة ولا عن تعبها.. يقول محمد ملوك، رفيق عبد اللطيف المنوني في تلك الفترة الغيفارية العصية، عن التجنيد الاجباري : ” فجأة تلقى عدد من قيادي المنظمة خصوصا أعضاء اللجنة التنفيذية استدعاء ليصبحوا مجندين داخل القوات المسلحة الملكية.
كانت هذه الدعوة بالنسبة لنا داخل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب بمثابة كارثة، ماذا يريد الحكم من هذا التجنيد؟ أيريد أن يقتلهم هناك؟ لا أحد أعطانا جوابا، وأصبحنا داخل المنظمة في مأتم، البعض منا سواء جاءه الاستدعاء أم لم يأته بدأ يبكي، وكأنه يودع الحياة، وذهبنا مع أحد أعضاء اللجنة التنفيذية إلى قبر أبيه فبدأ يبكي وقال لأبيه، وهو في القبر، ربما سألتحق بك قريبا، لم نستطع أن نعمل أي شيء فانتظرنا لنرى ماذا سيقع، بعد أسبوع اتصل بنا المجندون وأخبرونا أنهم بخير وعلى خير، وأن الجنود وخصوصا الضباط منهم رحبوا بهم وعاملوهم معاملة جيدة بل ورائعة، وبدأنا نضحك ونصفق ونبتهج، قلنا إذن التجنيد ليس معناه السجن أو القمع بل ربما “لله أعلم” كان هدف الحكومة هو تعريف الطلاب ما معنى الخدمة العسكرية.
والمهم أنهينا المشكل واعتبرنا التجنيد أمرا طبيعيا في أي بلد من البلدان»”.
سينوب محمد صدقي في الحكاية، عن عذابها، إذ يقول في فقرة تخص العقاب الذي تلقاه في فترة التجنيد الإجباري سماها» عقاب مؤلم ضد محمد الحلوي.
«في الحاجب تعرض محمد الحلوي لعقاب شديد، وذلك بسبب زيارته للمرحوم عبد الرحيم بوعبيد، خلال عطلة قصيرة، حيث أمر محمد اعبابو بوضعه في حفرة يجلس فيها تحت الشمس الحارقة لمدة أربعة أيام، حيث أصبح غشاء رأسه مقيحا ويسيل دما».
“وهو أسلوب، يضيف محمد صديقي»، استعمل مرة ثانية ضد قيادة “اوطم” في فبراير 1967 عقب محاضرة نظمها الاتحاد في كلية الحقوق بالرباط، حول موضوع “الاستثمارات الأمريكية بالمغرب من سنة 1956 إلى 1967” وتزامنت مع الزيارة الرسمية للملك إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ومع بداية المحاضرة التي يلقيها رئيس الاتحاد “اوطم” فتح لله ولعلو، داهمت القوات العمومية القاعة واعتقلت بالأصفاد رئيس المنظمة الطلابية وأعضاء اللجنة التنفيذية، ونقلوا إلى قاعدة عسكرية في الجنوب لأداء الخدمة العسكرية”.
ولكن الاحتجاجات الواسعة في الجامعة والثانويات، فرضت على النظام إرجاع رئيس المنظمة ورفاقه إلى مواقعهم القيادية، ومرة ثالثة استعمل هذا الصنف من القمع ضد قيادة المنظمة، بعد الإضراب العام الذي شنته الحركة الطلابية ضد زيارة وزير الخارجية الإسبانية لوبيز برافو، دار موضوعها حول الاستغلال المشترك لفوسفاط بوكراع في الصحراء المغربية، ومرة أخرى نقل رئيس المنظمة محمد لخصاصي وبعض رفاقه إلى قاعدة بنكرير لأداء الخدمة العسكرية ربيع 1970 والحالة هذه، أن رئيس المنظمة سبق أن أدى الخدمة العسكرية ضمن الفوج الأول مع محمد الحلوي ورفاقه، ومرة أخرى فرضت إضرابات الطلبة إرجاع قيادة الاتحاد إلى مواقعها.
وخلال الستة أشهر الأولى من سنة 1964 توالت التجمعات الاحتجاجية والإضرابات في الجامعات ومظاهرات تلامذة الثانويات بالرباط والدار البيضاء وفاس وغيرها من المدن المغربية، أعقبتها موجة من الاعتقالات في صفوف الطلبة، وأغلقت بعض مقرات الاتحاد الوطني لطلبة المغرب في كثير من المدن، واحتلت الشرطة البعض الآخر، ومع ذلك ظلت المنظمة قوية ثابتة في وجه القمع، ولم تتوان، غداة صدور أحكام الإدانة في مؤامرة يوليوز، عن التنديد بالمحاكمة الجائرة مجددة تضامنها مع أبطال المقاومة الفقيه البصري، ورفاقه، وفي فاتح ماي، تظاهروا إلى جانب العمال احتفالا بعيدهم السنوي، رافعين شعارات تطالب بإطلاق سراح المعتقلين وعودة رئيسهم، ولكن دون جدوى».

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 28/07/2020

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *