مواقيت النجوم،.. والقصيدة الغيوانية

عبد الحميد جماهري

تزداد غرابة كبار العلماء أحيانا كلما زادت معرفتنا بهم! وذلك حالي، على الأقل مع شخصية محمد ابن الموقت المراكشي.لم يكن شخصية نمطية، تقاس على من سبقها أوعايشها، وتصنيفها في جمع جامع لمن جايلها.
ففي سيرته ما يكثِّف المنحى التراجيدي في سيرة العلماء، فهو إلى جانب ما وفَّره من كتبه، كان منزعه في الحياة الزهد والانصراف عن الناس، لكنه شغل الناس إياهم، عامتهم وخاصتهم. ولعل ما ضاع من كتبه أكثر مما تم تحقيقه..!
شخصية سابقة لعصرها، فقيه ومصلح، سمي بابن الموقت لكونه تولى مهمة التوقيت بعد والده بالمسجد العتيق جامع ابن يوسف، ولادته كانت سنة 1894م.
استرعى انتباه كل من تابع الندوة أن ابن الموقت عاش ما كان ابن سينا يسميها حياة عريضة، وهي في الوقت ذاته طويلة 75( سنة) لكنها ما كانت لتكفي، «بالتوقيت» السائد آنذاك، في الطباعة والكتابة لتدوين كل تلك العلوم، وهو ما يصنفه في خانة الرجل الاستثنائي.
ولكل استثناء قاعدة مُلْغزة، ومنه ما ترويه أسرته من بعض «النبوءات» التي طبعت ذاكرتها. ومنها قوله وهو يتحدث عن ابنه الذي أسس المؤسسة باسمه: «هذا الولد هو الذي سيُعرِّف بي في أقطار العالم». ويرى أهل الراحل بأن «عبدو الموقت» وفَى بذلك، أولا، من خلال معاملاته في القارات التي زارها للتبادل التجاري أو العلمي، وثانيا، من خلال الحديث المتواتر عنه بإنشاء هذه المؤسسة.
ومن عناصر الكتابة الفيلمية، حقا، هو أن يختار رجل إصلاحي مهنة التوقيت وفاء لأبيه، ثم يضيف عليها طبقات أخرى من العلوم، المعروفة وغير المعروفة، كما هو حال علم الحروف السرية.
ولعل في هاته الفجوة من الدهشة في السيرة ما يفتح الباب على سؤال أكثر ملموسية: ألم يكن الفقيه العلامة الصوفي المُحاسبي على علم بما أنتجته تيارات الحروفيين.. علما أن الحُرُوفيَّة هي فرقة فارسية مزجت بين الصوفية والإسماعيلية، أسسها فضل لله نعيمي الاسترآبادي. وقد انتشرت دعوته لقربه من محمد الفاتح في لحظة الأوج وقد فتح القسطنطينية (التي صارت أسطنبول الحالية).
ومن كثافة وجوده، إضافة إلى تعدد المناهل والمشارب والتخصصات، أن معاركه كانت لا تحد، ولعل في قصة اسم ابنه «عبد المنتقم»، فرادة لم يختص بها غيره، فقلما تجد اسما من أسماء لله الحسنى، «المنتقم،» يرد في الأسماء. ولعل في ذلك رسالة «حروفية» مشفرة تفيد بأن الولد سينتقم لوالده ممن عادوه جورا، خاصة وأن خصومه لم يكونوا من عامة الناس (المنحرفين) بل كانوا من الزوايا والصوفية، الذين كانوا يتغوَّلون ويسْتقوون عليه بالاستعمار الذي قرَّبهم، فكانت الحركة الوطنية قد دعت إلى السلفية والصوفية المطهرة للرد عليهم.
وكان من أعدائه كذلك من احتموا بالباشوات مثل الكلاوي وغيره. وهو ما وضع نزعته الإصلاحية في المواجهة الخطرة وليس فقط التعالي الأخلاقي المنزه عن ضغوط الواقع.
عندما تحدث أحمد المتفكر، الذي راكم عشرات الكتب المحققة، وعبد الوهاب الأزدي وعبد العزيز أبايا، زادت الدهشة من هاته الشخصية. وقد سرت الهمهمة وسط الحضور ونحن ننصت إلى مؤلف كتاب الراحل الجديد، وهو يخبرنا بأن «سبحان لله صيفنا ولى شتوا ورجع فصل الربيع في البلدان خريف»، هي من تأليف والد ابن الموقت، وأن هاته الأغنية الغيوانية الشهيرة، التي تتحدث عن انقلاب «المواقيت» الدنيوية بفعل الفساد والرشوة والظلم، نظمت في فترة سابقة من القرن العشرين، وأن التغني بها ما زال قائما.
يمكن للسيناريو عن سيرته أن تكون له بدايتان: سيناريو ينطلق من الغرفة فوق سطح المسجد، عن شخص يراقب النجوم ويكتب أسرار السماء، ثم يخرج إلى بيته قافلا!
وسيناريو يبدأ من مشهد. سهرة غيوانية تقودنا إلى صاحب الكلمات.. ومسارات التشابه بين تاريخين.
وأيا .كانت البداية سيكون الحديث والكتابة والتدقيق في حياة رجل بهذه الكثافة إضافة في بناء الشخصية الوطنية. ولعل استكمال توصيف الشخصية يقتضي كذلك البحث في تأثيراته التي جاءت بعده، والذين تعلموا على يديه، والشخصيات الوطنية التي تأثرت به، بل يمكن أن نبحث في «نبوءات» حديثة لزعماء في الحركة الصوفية السياسية المغربية عن بعض الأثر والامتداد لنبوءاته هو شخصيا، ومنها نبوءته عن القيامة وتاريخها، وما إلى ذلك من مواقيت الغيب !.

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 08/07/2024

التعليقات مغلقة.