1 – اليوسفي: رحيل رجل دولة، مجيء رجل تاريخ

عبد الحميد جماهري
أرى موتا مهولا..
لكن خلفه حياة لا نهائية
أرى مغربا يتألم..
ومغربا يفتخر بوجود عبد الرحمان اليوسفي في قائمة جيناته وتربته وطينته
أرى رجلا، لم يملك شيئا من مادة العالم
لكنه أهدى لنا العالم كله..
ورحل…
تعفف في السياسة ، لكنه كان من القلائل الذين احتفظت لهم بسجل ذهبي ناصع..
أدرك أنه ليس فقط رجل دولة، لكي يظل يتفاوض معها حتى وهو يبتعد عنها،بل هو رجل تاريخ،
يصنعه من أي موقع شاءت له قدريته المكافحة:
معمل النقابي
وغابة الفدائي
ومنبر الحقوقي،
وقاعة التحرير
ومكتب القائد
وغرفة العمليات
ومنافي البلاد
وردهات السلطة..
لهذا لم يكن يشعر بالعزلة ولا بالغربة عندما ترك السلطة وترك السياسة ، وخرج يمشي في أسواق الناس البسطاء..
ينصت للنبض العام، حتى وهو يحكم على تجربة قادها هو نفسه بالتعثر، ترك الباب مواربا لعل التاريخ يسترجع وعيه ويعود بالسياسة إلى طريقها السوي..
لهذا كان يدرك ان الصمت قد يقول كل التاريخ
وان النظرة قد تلخص كل السياسة وان الابتعاد، كالاعتزال قد يكونا من نفس الرسالة:لا شي يستحق الاستمرار اذا لم يكن من أجل البلاد ومن أجل رفعتها..
ليست السيرة ليوم العزاء، سنتركها إلى حين تستعيد الحياة عافيتها من هول الصدمة في الوداع..
ونكتبها بماء السريرة، والنقاء..
ليست سيرته للتاريخ وحده
ولا للحزن وحده
ولا للبكاء.
بل أيضا لتفاصيل الان و للمستقبل القريب، وفي إعادة بناء صورة مغربية نموذجية..
من حسن حظنا مع السي عبد الرحمان، وهو يعبر قرنا كاملا من بداية العشرينيات الماضية الى عشرينية القرن الذي يليه، أنه استطاع أن يحمل، هو المسافر ، حقيبة القيم كلها، تلك التي عاشتها أجيال الوطنيين الكبار
وحملها، في ذاته وصفاته وسلوكه ودمه، إلى ما بعد ثلاثة أجيال..
وحين فتحتها تعطرت الاجيال التي بدأت تأنف من العطانة السياسية والركود الاخلاقي..
و الجيل الجديد، ذلك الذي لم ير البطولات والدماء والرصاص والرفعة تمشي علي الارض،
رأى فيه جسدا يحمل سير هولاء كلهم: المقاومون، المسلحون السياسيون النقابيون المناضلون الحزبيون الوطنيون اليساريون المتنزهون المتجردون المتعففون الاتقياء الانقياء البسطاء..
لهذا ربما لم يحبهم أصحاب المال
ولا اصحاب الجاه من أجل الجاه
والسلطة من أجل الجهل..
بحسه الرفيع،لم يكن في حاجة الي أن يعرف الجيل الحاضر والجيل الذي يليه وجيل قبله تفاصيل تاريخه، بين النقابة في العهد الاستعماري، والنضال المسلح وتهريب السلاح وبين المنافي والسجون والاحكام والتشرد، والاعطاب الكبرى في الرصاص والجمر، لكي يعرفوا طينة الكبار، كان لحسه الأخلاقي قوة التعويض والبديل المطلق :دخول السياسة بنظافة ومغادرتها بلا مال ولا ثراء،
وبلا مناقصات سياسية مخزية،كفيل بأن يرفع العمل السياسي الى مرتبة المثال.
ويعيد للسياسة نبلها كاملا…
عرف بأن تواضعه هو مرافعته الكبرى في تحبيب التطوع والعمل الجماعي والالتزام السياسي، بعيدا عن »الثدييات السياسية« التي لا تعترف بالقيم في السياسة..
**
السي عبد الرحمان،
وحيث وضعهك الناس ورفعوا له محرابا من قلوبهم لا يبدو لي الموت..
تبدو الحياة، في ما بعد الرحيل في سجلات الابدية الناصعة..
فأرى ما لا يموت: ابتسامة قائد بسيط، عفيف، وتاريخ حافل من السلاح والكفاح والسماح. سيرة بين كسرة خبز نظيف، و الرماح وأحلام البشرية الجمعاء.
من شمال البلاد الى جنوبها، ومن شرقها الى غربها: كان يرسم دائرة البلاد،
في تقشف لا يليق الا بالنساك الذين يغرفون غرفة واحدة من الابدية، تكفيهم للحياة كلها..
ويتركون للخلف قيما لا تموت..
لزبناد جيلنا، كان اليوسفي في بداية السيرة، اليوسفي صوتا: رسالة في شريط الى المؤتمِرين ، في الموتمر الاستنثاذي،197
سيتحول الي صوت اعتزاز وشهادة بزن الاتحاديين اختاروا الطريق القويم الي الديموقراطية.
كان وصته كفيل بالشهادة بزن الاتحاد في الطريق السليم
وكنت نتلقفها ونوزعها ونستمع اليها كصوت قادم من المنفي ليدلنا زن القاذد عبد الرحيم يقدونا الي الصواب..
بعدها سيتحول عبد الرحمان الي صورة، ثم الي سلوك، ثم الي اسلوب في الالتزام الاشتراكي النضالي، ثم الي قائد، ثم الي رمز ثم الي …. نموذج من جديد
ثم الي صوت من اعماق الضمير..يخالجنا كلما رزئنا بالاهتزاز العام في مراكبنا الجماعية ..
عبد الرحمان هو مفردات الحقل السياسي وهي تحيى حياة أخرى بعد أن تآكلت بفعل المواضعات السياسية المتردية، هو قاموس مجترح من اصالة مغربية وطنية استثنائية..هو براغماتية نظيفة للغاية،
لا أرى نهاية …
أرى جنازة خفيفة، بتاريخ ثقيل، بالهويني تسير نحو الخلود بصاحبها..
أرى رجلا التفت منذ قليل، وانسل من قلوب الملايين،
إلى تراب يشبهه: بسيط، حفيف، ظليل، وبعيد عن الانظار…
ولم نعد نخشى عليه الموت
منذ لم يعد الموت
نهاية..
منذ لم يعد سوى دليل على أنه خالد أبدا..
وأنه دليل الابصار لكي ترانا
والبصيرة لكي تعرفنا..
شكرا لأنه كان منا
شكرا وغدا لنا حديث اخر…
معه… دوما.
***
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 30/05/2020