16ماي … انهزم الإرهاب وانتصر الأمن

عبد الحميد جماهري

الانتقال الأمني
الأدوار الجيوسياسية
الأداء الدولي

 

الذين ولدوا في نفس تلك السنة، ليلة اجتاحت المغرب موجة ترهيب وتفجيرات قاتلة، صار عمرهم وعمرهن واحدا وعشرين سنة. كبروا مقدار جيل بكامله، ولعلهم يذكرون دماء تلك الليلة كما في كابوس، ولكنها كانت حقيقة فارقة، دفعت المغرب دفعا إجراميا إلى نادي الدول ضحية الإرهاب.
من حسن الحظ أن الدماء التي جرت تحت الجسور، منذ ذلك الوقت، لم تكن بحجم تلك الليلة من ماي الجارح في الدار البيضاء.
غير أن الدرس كان قاسيا، ومفيدا بالنسبة لبلادنا التي طورت، من بين ما طورته، مناعة أمنية ومجتمعية قوية ضد الفكرة الإرهابية، قبل تنفيذها وقبل تحويلها إلى رصيد من الجثث والخراب.
لم يكن اختيار تاريخ 16 ماي يوما لتنفيذ الهجمة الإرهابية الأكثر شهرة في تاريخ المغرب، اختيارا اعتباطيا، وكان واضحا في العقل الإرهابي للجريمة أن الضربة توجه للبلاد، في يوم الاحتفال بذراعها الأمني، وهو تحد واضح للجهاز الأمني، وأيضا لقدرة البلاد على تحصين نفسها بواسطته.
ويبدو من خلال العقدين الماضيين، أن هذا التاريخ المأزوم، أو هاته الأزمة الوجودية، التي تشكل لحظة من معالم العهد الجديد الأمنية، تحولت إلى مناسبة وفرصة لانطلاقة جديدة نحو المزيد من التحصين العميق، وكذلك من أجل تصليب عود البلاد للتقدم على طريق شاق وصعب، هو التأهيل الشامل لذاتها.
ويمكن أن نستخلص ثلاثة دروس كبرى، من الفترة الفاصلة :
1 ـ لقد تمثل الانهزام الإرهابي، في استحالة حصوله على تربة مغربية لاستنبات نفسه أو حاضنة شعبية، فكرية كانت أو بشرية، لأطروحاته، بالرغم من وجود خطر الإرهاب القائم.
وتمكن المغرب من أن يشبك جهوده، حيث التقت المقاربة الدينية والعقدية مع المقاربة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بالمقاربات الأمنية والقانونية، وأن يعطي نموذجا في محاربة هاته الظاهرة، ويقدم نموذجا ناجحا في القدرات الاستباقية لكل هجماتها، واستطاع أن يطور جهازا وطنيا قادرا على التقاط كل تحركات الإرهابيين وإفساد مخططاتهم وتفكيك مواردهم البشرية واستباق ضرباتهم…ومنذ يومين فقط فكك المغرب شبكات داعشية كدليل متجدد أن التهديد ما زال قائما…
ومن الأدوار التي يواجهها الأمن المغربي، ولربما له قصب السبق في لعبها هو استباق تشابك الإرهاب بالانفصال في خلق التهديد الأمني وترويع المجتمعات، لاسيما مع تحول الكثير من العناصر الانفصالية إلى الأجندة الإرهابية، وهو تحول يؤثر على توازنات إقليمية في القارة التي تعد اليوم من أنشط بؤر الحركات الإرهابية ( أزيد من سبعة آلاف عملية إرهابية منذ 2020، وتنفيذ ما يقارب 80٪ من الضربات الإرهابية في القارة )، والمغرب بفعل تجربته الأمنية أدرك الخيط الرابط بين الانفصال والإرهاب، وطور أداء متقدما في فصل المجال واتصاله بين الإرهاب والانفصال، ويرافع دوليا عن هذا الترابط بالحجج وبالتحليل الموضوعي، وبكل ما يملك اليوم من بنك معلومات في هذا الباب..
2ـ الأداء الدولي والأدوار الجديدة للأمن في موقع المغرب جيوسياسيا، صار معطى ثابتا لا يمكن إغفاله في أي تحليل لتحركات المغرب أو تفسير عقيدته الديبلوماسية مثلا، ففي القضية الإرهابية أصبح المغرب نموذجا وقبلة لكل أنواع التعاون، وليس لنا هنا أن نعدد كل المنصات الدولية التي صار بها المغرب حاضنا دوليا ووديعا معنويا لجهود العالم في تقليم التوجهات الإرهابية ( ترؤسه للعديد من المنظمات الدولية وتحوله إلى قطب حي في التحالف الدولي لمحاربة داعش وانعقاد مؤتمراته فوق التراب المغربي، اقتسام الرئاسة مع دول كبرى ومنها الولايات المتحدة، للعديد من الإطارات الأممية في هذا الباب، التعاون الثنائي الذي بلغ مراحل متقدمة في الجوار الأوروبي والإفريقي معا… إلخ).. وهذا الحضور الإقليمي والإفريقي والدولي غير المسبوق جعل الذراع الأمني للمغرب يتولي، باقتدار كبير، أدوارا ديبلوماسية، وجيوسياسية مهمة، تجد بدورها شرعيتها لما صار العالم يوليه لمحاربة الإرهاب وتأمين التظاهرات الكبرى ودعم الاستقرار المؤسساتي في الكثير من المناطق الملتهبة، كما هو حال بلدان الساحل .
ومن باب الإنصاف، والاعتزاز، أيضا، أن نشير إلى المكانة التي صار يتبناها جهاز الأمن، الاستعلاماتي منه والعادي في العالم، كما يثبت ذلك من خلال التعاون الدولي ( مع أجهزة فدرالية أمريكية ومخابراتها المركزية ومجلسها القومي الأمني، ومع ألمانيا وإسبانيا ومع أجهزة الأمن في فرنسا وأجهزة الشرطة… إلخ )، وهو أمر يتم على قاعدة التنمية، يكون فيه المغرب هو المطلوب وليس الطالب، ولعلنا لا نخطئ إن قلنا إنه تحول وانقلاب كبير في البراديغم الأمني المغربي.
3- الدرس الثالث يتمثل في الانتقال الأمني الذي يراكم الكثير من نقط القوة والترشيد، ولعل مسار الانتقال الذي يعرفه الأمن يتمثل في جزء منه، على مستوى” تأهيل الجهاز، ذي المستوى الدولي المعترف به، وكذا التأهيل في الموارد البشرية، وكذا الرقي بالمستوى العلمي وتوفير شروط النبوغ، بل يمكن أن يُجْمع المغاربة أن قاعدة الاستحقاق أصبحت سارية في انتقاء الموارد الكبرى عبر المباريات، ويمكنني أن أقدم شهادة شخصية في هذا الباب لما عشته من خلال العديد من مباريات الأمن الوطني والصرامة التي تتم بها .
وأعتقد بأنه على اليسار الحقوقي والسياسي أن يقرأ جيدا التحول الحاصل في المنظومة الأمنية وكذا في البراديغم الأمني، ما حدث من اتفاقيات تمس القضية الحقوقية والتداخل في العمل مع مؤسسات ذات صبغة ترافعية في هذا الباب، كما هو حال لجنة المعلومات الشخصية والمجلس الوطني لحقوق الإنسان وهيئة محاربة الرشوة والفساد … إلخ، كلها معطيات لا يمكن أن نختزلها في تفكير كسول، وتستوجب منا قدح الشرارة في فهم ما يحصل.
تلخيص معطى الانتقال الأمني سيكون تلخيصا مجحفا مهما أسهبنا، ونحن نعيشه، بشكل ملموس، من خلال معطيات جديدة تحولت فيها العلاقة بين المواطن وبين الأمن، سريا وعلنيا، وتحولت فيها ذهنية رجل الأمن نفسه وراكمت فيها المنظومة الأمنية تطورا علميا وثقافيا وسلوكيا وتقنيا تراكما من مستوى دولي كبير، ولعل مطالب العديد من المكونات المجتمعية بمساعدة الأمن للمجتمع على محاربة الفساد وتتبع بؤره وتحولاته التي تهددنا بالعصف بالمؤسسات هو مطلب لا يمكن التغافل عنه ( طلب تدخل الديستي في محاربة الفساد الانتخابي مثلا مطلب لا بد من أخذه بعين الاعتبار )..
نحن أمام شخصية معنوية، كجهاز، وطبيعية كطاقات فردية تساهم بثراء واقتدار غير مسبوقين في أمننا وفي أمن العالم، وتتقدم بنجاح، على جبهة تتجدد أساليب التخريب لديها كما تتعقَّد أجندات الفاعلين فيها.
ولنا أن نعي بأن النجاح الحاصل هو نجاح للجدية والتفاني والمهنية والمعقول نصيب كبير فيه، والوطن مدين لأبنائه الأمنيين بدين كبير لن ينساه، علما أن الأمنيين لا يمنُّون علينا ذلك لأن ولاءهم في القيام بمهمة حماية الوطن ولاء لا مشروط ووطنيتهم وثنية كما يريد المغاربة ويحبون!…

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 16/05/2024

التعليقات مغلقة.