المنافسة وضيق التنفس الديموقراطي
عبد الحميد جماهري
يبدو مفهوم الحياد التنافسي مغريا، كما لو أنه لا ينتمي إلى قاموس المال والشراسة التي تطبع المنافسة فيه. يبدو كما لو أنه دعوة وعظية في مجال محكوم بالنهش والهضم وتكسير العظام!
وقد عنَّ لي ـ أنا الذي لا يعرف من الأسواق سوى سوق السبت اولاد النمة ـ أن المؤتمر الدولي حول “الحياد التنافسي والولوج إلى الأسواق” المنظم من طرف مجلس المنافسة في مراكش، كما لو أنه تجاوب فوري وآني مع التوصيات الصادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والتي كانت بين ظهرانينا، منذ بضعة أسابيع، والتقت رئاسة الحكومة… ومع اقتناعي الصارم بأن الإرادة الملكية حاسمة في تدبير السيادة الاقتصادية والشفافية، وكانت وراء العديد من آليات المنافسة والنزاهة، ومنها القانون المتعلق بالتنافسية والفساد وقواعد الشفافية والنزاهة في مجال الاقتصاد والصفقات العمومية، فإن السياق الذي ينعقد فيه المؤتمر، يعطيه معناه المشار إليه أعلاه، ومن ذلك أن المنظمة الأوروبية المعنية بالتعاون والتنمية كانت قد وقعت تقريرا ورد فيه بالضبط توصيات بـ” ضمان التنافسية وقواعد لعب منصفة وعادلة ومواصلة مجهودات محاربة الفساد والرشوة«”.
وبالرغم من أن لنا هيئة دستورية وجدت بهذا المعنى فلا يبرز وجدوها والإحالة عليها في فضاء المؤتمر ومنظميه، وهي الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها التي يعين رئيسها من طرف الملك، تماما كما هو حال السيد نور الدين بنسودة الذي عينه الملك منذ 2010، منذ حكومة عباس الفاسي، والسيد رحو الذي تم تعيينه من طرف الملك في ما بعد .. غضب »المحروقيين« من تقارير وقرارات إدريس الكراوي.)، كما لو أنها »أجرمت« بالحديث عن الكلفة المرتفعة للفساد في بلادنا!.
علاوة على ما سبق، كانت المهمة الأساسية هي وضع محاربة الفساد على الأجندة السياسية للبلاد. مشروع لم يكتمل بعد، من حيث خطة العمل الحكومية وتعثر اللجنة الوطنية التي أنشأتها الحكومة.
يضاف إلى ما سبق أن المنظمة الأوروبية، في تقريرها المشار إليه أعلاه، وضعت بعض الأولويات وأولويتهم الأولى هي» “تحسين التنافسية ووضوح توقعية القواعد الاقتصادية”، إضافة إلى إقامة نظام استشعار ذي مصداقية ونجاعة في تحديد تضارب المصالح الذي تواجهه الهيئات المسؤولة. «
ومع أنني لا أعرف بالذات كيف يتم تدبير “التضخم المؤسساتي” في مجال التنافسية، ما بين إحداث الوكالة الوطنية للتدبير الاستراتيجي لمساهمات الدولة وتتبع نجاعة أداء المؤسسات والمقاولات العمومية، وتعديل المرسوم المتعلق بالصفقات العمومية والوكالات الوطنية ذات الصلة، فإنني لا أرى تساوقًا بين هذا التضخم وبين الفعالية. وبينها وبين ما يتم عمليًا في الأسواق وفي الصفقات، ولا أرى أثرًا في النقاش السياسي العمومي، بعيدًا طبعًا عن أجواء المؤتمرات التي تُعد لحظة للمعرفة و”الديمقراطية الاقتصادية المقارنة”. وعندما يحدث نقاش ما بمناسبة تقرير عن الفساد أو المنافسة واختلالاتها، فإن الموضوع يتحول إلى تهديد حكومي مبطن يصل أحيانًا إلى “التشكيك في جدوى المؤسسات الحكومية المعنية بهما”.
هل يمكن أن نستند فقط على القواعد «المكتبية» في تدبير الاقتصاد والمنافسة الشرسة، والتي كثيرا ما تكون بوابة أو عتبة للفساد وتجفيف مداخيل الدولة؟
والحال أن أبسط الكتابات المسؤولة تدعو إلى ما ورد في التقارير التي تعتبرها الحكومة “»إجبارية«” في الأخذ بها، وهي ترى أن من الضرورة توضيح الأدوار، في خدمة البعد التخليقي بين الفاعلين في الهيئة الوطنية المذكورة والقطاع الحكومي المسؤول عن ذلك .. والمجلس الأعلى للحسابات، المفروض فيه مراقبة التصريح بالممتلكات والاغتناء غير المشروع..سواء من أموال الانتخابات ودعم الأحزاب أو عبر الكيانات الإدارية المترامية الفساد!..
ولحد الساعة ما زلنا بعيدين عن »”واقع مؤسساتي”« يجسد هذه الإرادة المعبر عنها دستوريا، ويعطي التنسيق بين هاته المكونات انخراطا حقيقيا وملموسا في محاربة الفساد.
الغضبة الحكومية التي طالت هيئة البشير الراشدي، يساري آخر الذي لا يعجب تقريره الحكومة، كان لها موضوعيًا مقابلها في تقرير منظمة التعاون والتنمية الأوروبية، والذي سجل في 2023 أن المغرب تدحرج في الترتيب العالمي للفساد، وصار “الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه” في المرتبة 97. وحسب المنظمة نفسها، فإن 83% من المستجوبين من المغاربة يرون أن الرشوة منتشرة، ومنهم 61% يرون أنها كثيرة الانتشار”بوكو كرمومة” و “بوكو حرام”.
مقابل ذلك، أبانت دراسة الهيئة الوطنية لمحاربة الرشوة عن نفس السنة 2023 أن النسبة أقل، حيث أن 76% من المغاربة يرون أن الفساد والرشوة منتشران أو واسعا الانتشار. وبذلك هناك تقارب في التقدير والنتائج، وليس هناك «تقارب« في الغضب الحكومي.
فقد تلقت الهيئة المغربية هجوما حكوميا غير مسبوق، وصلت إلى حدود التماس مع القدح والتشكيك، مقابل تسامح وانضباط رأس النعامة مع المنظمة الأوروبية..
وفي الختام، لا يبدو أن قوى الاغتناء في حاجة إلى لوبيات، تعمل بصريح القانون وواضح المنافسة، هي في حاجة إلى صوت سياسي يشكك في كل ما هو في صميم سيادة القانون، ويعطل ما يمكن تعطيله إلى حين إيجاد صيغ جديدة لهذا الإثراء، ومن ذلك مثلا أن قانون الإثراء غير المشروع لم ير النور، كما أن تدقيق مسارات مظاهر الثروة، كما هو متعارف عليه، ما زال في علم الغيب، ولو كان ذلك على حساب الميزانية وتمويلات الدولة، والتي ربحت، حسب ما كشف عنه السيد نورالدين بنسودة، مداخيل 36% ، وذلك بسبب وضع قانون الصفقات العمومية الجديد حيث ارتفعت الحصيلة إلى 131 مليار درهم، وثلثها الذي كان يفوت على ميزانية الدولة 45 مليار درهم، أي تقريبا المبلغ الذي كانت صرحت به الهيئة الوطنية لمحاربة الرشوة ونالت على ذلك هجوما رهيبا)!
ضيق التنفس الديموقراطي هنا من ضيق المنافسة الديموقراطية في الاقتصاد !
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 15/11/2024