البوسرغيني‮:‬‭ ‬نعي‭ ‬بصورة،‭ ‬نعي‭ ‬بحرف‮!‬ -1-

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

يندر في حياتنا، وفي حياة العديد من فضاءات الإبداع، أن يظل كاتب أو إعلامي مواظبا على الكتابة والتفاعل مع عالم يوشك على وداعه، كما فعل الراحل الكبير عبد السلام البوسرغيني.
ويمكن القول إن الصياغة هنا ليست صياغة ترميزية أو مجازية، بل هي توصيف حي لما وقع لرجل بدأ حياته المهنية، التي تركت بصماتها فينا، مع فجر الاستقلال، رفقة رجال صنعوا المغرب المستقل، مع قامات من قبيل المهدي بنبركة والفقيه البصري وعبد الرحمان اليوسفي، ومع »التحرير « الجريدة الأولى لليسار الوطني، وبعدها» المحرر» ..
الشعور الذي لازمني وأنا أقرأ له أو أتابع أخباره هو شعور الحفيد الزميل، وهو سلفنا الذين خرجنا من معطفه..
في رحاب الأم الرؤوم »العلم« التقط المهدي بنبركة ما في الصحافي عبدالسلام البوسرغيني، وما يميز طينة الرجل، فكان أن دعاه، عقب تأسيس التحرير، إلى الالتحاق بطاقمها. وهو قضى العمر كله يفتخر بهاته العلاقة التي ربطته بفرسان الوطنية والنضال التقدمي في الصحافة الاتحادية العنيدة إضافة إلى بنبركة، بالقادة البصري، اليوسفي والمحامي الصديقي، أطال الله عمره .
طوال عمره الذي ناهز الخامسة والتسعين كان شاهدا على تطورات المغرب الحديث.من شرفة التحرير. والمحرر. وكتب عن ذلك ما لن ينسى أو يسقط في التقادم:
هذه الرفقة صحبة صناع التاريخ جعلته من الصحافيين الذين يتكؤون على أرضية فلسفية، وإن لم تكن تلك مهمته، تقول إنه ليس سهلا الإفلات من التاريخ حتى ولو قررنا بناء على قناعات جديدة، (لن تكون سوى قناعات لا تاريخية ..)حتى ولو بنت نفسها على مبدأ أخضعته للتنسيب أو ذوبته في مفهوم أوسع، من قبيل… المستقبل !
ولعل البوسرغيني كان يقدم التاريخ كمادة خام من خلال مشاهدات وفصول شاهدها وعاشها.في التأريخ للصراع، لا أعتقد بأن هناك من يملك مثله كل هذا الخزان من الوقائع والأحداث والمواقف التي عاشها مثله.
كما أعتقد أنه من القلة، أمثال عبد الله العروي باستحضار الفارق الكبير في طبيعة الاشتغال وطبيعة المعالجة، الذين يجعلون من التاريخ ضرورة لإضاءة تقلبات الحاضر..
ظل يحمل ثقلين: ثقل الصحافة ووقائع الحضارة وثقل التاريخ وظلاله التي يرمي بها علينا..
كنا على موعد من أجل كتابه القادم عن تاريخ الصراع المغربي الجزائري. هذا التاريخ الذي كان شاهدا مباشرا على فصوله وتفاصيله ، من قمرة القيادة الإعلامية.
وهو نفسه كان يشتهي الحديث عن تلك الفترة الحاسمة في حياته المهنية والإنسانية أو على الأقل في اللقاءات النادرة التي جمعتني به. ومن تلك الشرفة كان يتحدث عن »معاصرة »التحرير« أحداث المغرب وكيف مهدت لتطوراتها المتلاحقة..«. في تلك الفترة= كان المرحوم اليوسفي، رئيس التحرير، قد أسند إليه قسم الأخبار الدولية لتتبع كل ما له صلة مباشرة أو شبه مباشرة بالمغرب، ومن المفارقات التي ترخي بظلالها على الحاضر ما يقول الفقيد العزيز من كون » إذاعة تل أبيب كانت من أهم الإذاعات الإخبارية من الناحية المهنية« بل من خلال ما التقطه هو شخصيا، تكشفت له خيوط فعل سياسي استخباراتي مغربي فريد، إذ حدث أن التقط في إحدى نشرات هذه الإذاعة الإسرائيلية خبر اكتشاف تورط عسكريين أمريكيين من القاعدة العسكرية الأمريكية بمدينة القنيطرة في عملية تهريب أسلحة، دون أن تقدم تفاصيل عن تورط مواطنين مغاربة أو عن طبيعة الأسلحة«، وقد حرر الخبر وسلمه لسكرتير التحرير الأستاذ محمد الصديقي المسؤول « ولعل من مكر الصحافة.والتاريخ، أنه كان يكشف بدون قصد عن تنسيق بين الأمريكيين والسلطات المغربية، تم على إثره اعتقال المرحوم مومن الديوري وقادة الاتحاد ومحاكمتهم، تلك المحاكمة التاريخية في تلك البناية الشامخة التي تتوسط شارع محمد الخامس بالرباط، والتي تحولت في السبعينيات، إلى مقر للبرلمان بمجلسيه..

يتبع

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 18/09/2025