عمر الصحراوي الثوري الوحدوي

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

لطالما راودتني الفكرة بأن الاغتيال المبرمج للشهيد عمر بنجلون كان في جزء غير يسير منه، موجها للروح التي انطلقت مع المسيرة. كان عمر يكتب ويردد بأن هذه الملحمة عنوان لتحرير الطاقات الكفاحية للشعب المغربي. ويعتبر. تحقُّقها، تعبيرا عن انطلاق هاته الطاقة التحررية التي تعد ثابتا من ثوابت الروح المغربية. من إِسارها السياسي وارتهانها إلي المنطق الصراعي الذي كان يحكم المغرب وقتها.
الذين اغتالوا عمر، اغتالوا الكاتب الأول القادم للاتحاد والمبرمج أن يخلف عبد الرحيم بوعبيد، كما اغتالوا الثوري الذي »عقلنته« الفكرة الديموقراطية الوطنية، وانحاز إلى الفكر الديموقراطي ..والذين اغتالوا عمر، في المحصلة، لم يترددوا، في ما بعد، في الزج بالمغرب في الفصل الثاني من سنوات الرصاص، والتي أعقبت تلك الهبة العالية من الوطنية المتفائلة والذاهبة نحو المستقبل.
كان عمر يرى أن تأمين الوحدة الوطنية يتم بالمزيد من الديموقراطية والعدالة…
وهي معادلة تخيف الذين كانوا يسعون إلى توسيع وعاء الاستبداد والاستعباد..
عمر إلى ذلك، كان يخوض المعركة ضد النزعات الفاشية التي تتقدم بقناع ثوري، ماركسي لينيني واشتراكي فوضوي وأممي نصفه عسكري ونصفه تقدمي!

بالعودة إلى يومية المحرر سنة 1975، وقبيل اغتيال عمر بنجلون، كانت المسيرة الخضراء هي الموضوع الأثير والوحيد في كل الافتتاحيات والمقالات والمتابعات..سيجد حماسه المنقطع النظير، وسيجد نوعا من التباين الخفي بينه وبين لغة الفقيد الكبير عبد الرحيم بوعبيد، في التماهي مع الحركة الشعبية المسلحة: كان الفقيد عبد الرحيم يفضلها بندقية وكان عمر يرى في الهبة السلمية عنونا للتحرير لا يقل عن الحرب !
ولعلي لا أجازف بالقول بأن المناضل الطبقي المتشدد، عمر بنجلون، استطاع أن يقنع القائد الوطني السياسي، قائد مفاوضات الاستقلال . بأن المسيرة الشعبية هي شكل الحرب التحريرية في الزمن المغربي الجديد: وسلم عبد الرحيم بما كان عليه رأي عمر: وكانت تلك الافتتاحية الشهيرة : ولتكن المسيرة..

كان عمر أيضا يعتبر بأن المواجهة الفكرية، ومقارعة الحجج الإيديولوجية، الوجه الآخر للحرب حول الوطنية والوحدة الترابية، لا تقل ضراوة عن المواجهة الديبلوماسية بل إنها تتلازم وإياها في حالات مثل حالات تقرير المصير، التي تحولت إلى وقود إيديولوجي في يد الفاشية وفي يد الطغمة العسكرية وأنظمة الحزب الواحد..
وكانت له جولات كثيرة حقا في الترابط العضوي الوجودي بين التقدمية والوحدة، نذكر، من بين ما نذكر ومرات عديدة، مواجهاته على أمواج إذاعة «فرانس آنتير» مع الممثل الذي اختارته البوليزاريو ممثلا لها في أوروبا وناطقا باسمها لدى الغربيين أحمد بابا مسكي…
وكان وقتها قد دافع عن مغربية الصحراء بالتاريخ والثورة والفكر التقدمي.
بعد سنين عديدة، جاء أحمد بابا مسكي، والتقيته في مكناس، في ندوة الباهي محمد، المنظمة هناك أيام كان حسن أوريد واليا علي الحاضرة الإسماعيلية.
على كل، هذا الفصل ينسينا، في الواقع، فصلا آخر من المقارعة الفكرية، والذي قاده هو والفقيد عبدالرحمان اليوسفي في موسكو، في مجلس التضامن الأفرو أسيوي،الذي انعقد بعاصمة الاتحاد السوفياتي في شتنبر 1975..أياما قليلة قبل اغتياله.
كان الحدث، غير عادي، إذ كان عبد الرحمان،رحمه لله، منفيا في الخارج و «التحق» به عمر بنجلون ومالك الجداوي وسافروا معا يرافقهم عبد السلام بورقية إلى المجمع الدولي التقدمي.
وإلى جانب اليوسفي، واجه الوفد التقدمي، لأول مرة في مجمع عالمي، الوفد الجزائري يقوده الشريف مساعدية، المنظر الكبير لحزب التحرير الوطني الجزائري، وعمار بنتومي نقيب المحامين الجزائريين وقتها.. وبعد المحاضرة العالية التي ألقاها اليوسفي كان العمل داخل اللجن، وكان لعمر أن يكون في لجنة إفريقيا والشرق الأوسط، واستطاع انتزاع بيان لفائدة المغرب، فقرة وحيدة كانت بميزان الذهب في عاصمة المعسكر الشرقي المتضامن مع الجزائر وقتها:حيث ورد «أن المجلس يؤيد نضال الشعب العربي بالمغرب من أجل تحرير الصحراء والمدن المغربية التي ما زالت تحت الاستعمار» وسعت الجزائر إلى حذف كلمة «المغرب»، حتى يتكرس مفهوم الدول العربية المعنية، وهي بطبيعة الحال الجزائر.
ونجح عمر في ذلك، ثم كانت جولة ثانية في يوم الغد عندما استفاق الوفد الجزائري من الصدمة وأراد استعادة المبادرة بمحاولة فرض «تقرير المصير في الصحراء الغربية «إلى جانب جزر السيشل وجيبوتي! في تعويم يراد له خلط الأوراق … ووقف عمر في وجه الوفد الخصم ..وضد تحوير الموقف المعبر عنه بدعم نضال الشعب المغربي وتحريف النقاش عندما، تدخل «عمار بنتومي من الوفد الجزائري ليشبه» حجج المغرب التاريخية في الصحراء بحجج إسرائيلية». وهنا انتفض عمر وكان الصدام الذي فرض تدخل الأجانب الحاضرين في الموضوع …
لم تربح الجزائر التعديل الذي أرادته، لكن حيثيات ما جرى وقتها كشفت كل أدوات الحرب التي ستعتمدها طوال خمسين سنة، وكان عمر واليوسفي وبورقية والجداوي قد واجهوها في قلب المعسكر الاشتراكي القديم الذي كان مجالا حيويا للجزائر وأطروحتها..
هو ذا عمر، في قلب النضال التقدمي الوحدوي، بسلاحه الوطني المترع بالكفاح .. لم يفقد البوصلة بسبب أمميَّته ولا فقد البوصلة باسم واقعية مفتعلة!
وقد ظل مؤمنا بأن المغرب بلد صحراوي، وأن علينا أن نلتحق بالصحراء أكثر مما هي تلتحق بنا.. وفي هاته الفكرة التقي مع الراحل الحسن الثاني كذلك .. كواحدة من المفارقات الوطنية عالية الدلالة!

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 18/12/2025