9 مارس: مخيال الدولة وشاعرية الدستور..

عبد الحميد جماهري

من حسن الحظ أن ذكرى خطاب 9 مارس، (الذي أعلن فيه ملك البلاد إطلاق الإصلاحات الدستورية غير المسبوقة في البلاد) قد تزامنت مع صدور كتاب رفيع وتوثيقي وجد جريء في تقديم أطروحته حول الدولة المغربية.
كتاب «حياكة (حبك) الزمن السياسي في المغرب خيال الدولة في العصر النيوليبرالي..»
وهو عمل طويل النفس تطلب من الباحث والمفكر محمد الطوزي ورفيقته في العلم والتنقيب التاريخي بياتريس هيبو، ثلاثين سنة من العمل!
نعم، ثلاثون سنة من البحث الميداني والحوارات والقراءات إلخ…
في الكتاب أطروحة متكاملة وبنيوية لتاريخ الدولة..
ويعلن الباحثان، منذ البداية، أن هناك ثلاث مسلمات تحكمت في البناء الفكري لهذا العمل الضخم والعميق، ويتعلق بإعادة استثمار الحضور الإمبراطوري المغربي، أي تاريخ الإمبراطورية في فهم الراهن المغربي.. إعطاء مكانة مركزية للخيال في فهم الدولة المغربية. والمخيال، هنا، هو الحامل والرحم الذي تتم فيه وتنمو وتتوفر عمليات تطبيع وشرعنة العنف في علاقات السيطرة، ثم التفكير من خلال النموذج الاسمي Ideal type…
الأهم في المسلمة الأولى هو أن الدولة الأمة أو الدولة الوطنية في المغرب لم تكن فصلا مواليا لفصل الدولة الإمبراطورية، بمعنى أن الدولة ـالوطن لم تولد من أنقاض الدولة الإمبراطورية، بل إنهما تتعايشان وتتعايش مميزاتهما «ونجدهم في الطرق العملية للحكم»، (ص 14).
وهو منحى يتعارض كليا مع التوجهات العامة التي تعتبر بأن الشكلين لا يلتقيان ولا يتلاءمان في نظر خبراء مفهوم الدولة، (بييري. بوريدو نموذجا)..
وهو ما يسعفنا كما يسعف الكثيرين في فهم السلوك المغربي، داخليا وخارجيا، في الديبلوماسية وفي بناء الريادة الإقليمية، كما في تفسير علاقات السلطة بين المؤسسات.. ولعل الكتاب دليل لفهم تاريخي سياسي للمغرب من طرف الشركاء أيضا، ولا سيما في أوروبا…
ما يثيرني أيضا المسلمة الثانية، والتي تعطي للخيال والمخيلة دورا للرحم الذي تتشكل فيه الدولة..
راهنية البُعد الإمبراطوري، لا تتلخص في ديكورات» المامونية»، ولا هي التقليدانية وقد صارت إيدولوجيا، إن الإمبراطورية (كنموذج مرجعي) تنتمي إلى مخيلة أو مخيال الدولة…
وبذلك يصبح للدولة مخيالها وخيالها، كما أنها تستثير المخلية عند القارئ والباحث في فهمها…
وقد أعجبني قول الباحثين بأن المخيلة مفهوم مركزي في تحليلنا أو مخيلة الدولة في فهم المغرب.
طبعا للأمر علاقة بالبحث العلمي، وبدون المرور إلى المسألة الثالثة، وجدت إغراء خاصا، في البناء الشاعري الذي أوحت به مركزية خيال الدولة في الحديث عن نفسها وممارستها…
وهو مبحث يسمح لصاحبه بالإحاطة البانورامية بجوانب تبدو متنافرة ومتباينة، من» اللغة وحركات الجسد إلى العواطف، من استراتيجيات التملك والتأويل إلى طرق المعيش اليومي ومهاراته ومعارفه، ومن استراتيجيات إعادة الابتكار إلى تكنولوجيات السلطة، ومن المفاهيم والتصورات إلى أشكال محاولة معرفة الزمن والمكان والعلاقات الاجتماعية «، وعليه فإن الباحثين ينطلقان من أن «الواقعي لا يمكن القبض عليه خارج الخيالي، أو ما يسميه بول فاين، المخيال المكون! « والخيال بهذا المعنى هو حوار مستمر بين الإرث والابتكار، وتفاعل بين تصورات مختلفة عن السلطة والحكم والمجتمع..
إن المخيال ليس هو شعور أو لا وعي الدولة أو المجتمع، بل هو شيء واقعي جدا وواع جدا من طرف الفاعلين السياسيين وغير السياسيين في محيط الدولة والمجتمع..
إنه أكبر من «نحو »grammaire، بل هو لغة يتم عبرها تداول المعنى، وفي سيرة العلاقة بين اللغة والمخيال ، ما يحيل لدى العبد الفقير لرحمة ربه على الشاعرية، ولعلي هنا أستحضرالحديث عن مساهمة الدستور الأمريكي في صياغة الأمة الأمريكية، ومن خلال ذلك تأثيره على الإنتاج الثقافي والأدبي، بحيث تم ابتداع مفهوم الشعرية الدستورية «poétique constitutionnelle، (كما صاغها ميتشيل ميلتزر Mitchell Meltzer ) وهو المبدأ الذي طبق على من يسميهم آباء النهضة الأمريكية أي: ايمرسون، وايتمان وميلفيل.. ومرجعيتهم في النص الدستوري …كما لو أن الدستور يشتغل غير آبه بالتضاد بين المقدس والمدنس، بين الدهري والسرمدي..
لست أذكر بالتحديد كيف اشتغل مخيال الدولة منذ 12 سنة، لحظة 9 مارس، لكني أذكر بأن جزءا من لغة الدستور وشاعريته كانت بالنسبة لي كمناضل اتحادي حاضرة بقوة باعتبار أن الخطاب وقتها عرض جزءا من التفكير الإصلاحي للاتحاد كما صاغته مذكرته التاريخية التي رفعها إلى الملك وتلك… شاعرية أخرى!

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 09/03/2023

التعليقات مغلقة.