العودة إلى «وليمة لأعشاب البحر ـ نشيد الموت»

عبد الحميد جماهري

لا شيء في المقطع التأسيسي يوحي بالجحيم الذي تخفيه اللغة وعنوان الوليمة ـ المأدبة الروائية: سماء صاحية، وفتاه تشير بأصبعها، كما في مقطع نثري جميل إلى البحر، وهي تسرع الخطى إلى الشاطئ الصخري وتتقدم حافية نحو الماء.
وخلف ذلك المشهد يُقَرْفص رعب سياسي ووجودي، قبل أن يطارد صاحبه.
لمدة تسع سنوات ظل حيدر حيدر يبحث في زبد العمر عن رواية قاتمة وشيوعية ورهيبة، يرصد تماس وداعة رجل يريد أن يشبه نورًا ونزق امرأةٍ بضة بساقين تجاوران النوارس.. آسيا لخضر الجزائرية ومهدي جواد العراقي.. البطل الشيوعي الباحث عن أفق أكثر وداعة فوق بحر من العتمة!
وبرحيل حيدر حيدر، يرحل رجل دخل إلى مخيلتي الأدبية، ومخيلة جيل ربما، وهو يحمل معه طحالب واقع عربي مثخن بالجراح، في ليالينا الشتوية التي اكتشفناه فيها كان يتقدم واضعا معاطف من طحالب حمراء وبنية وأخرى قليلة خضراء، ينوء تحت وطأة لغة شاعرية مثقلة بالألم، لغة تلهث وتجر قارئها عنوة ليتيه وراء النهايات … يتقدم الروائي المقاتل، تحت نيران «الليفياتان ـ الوحش» الذي اكتشفنا فيه وقتها شكل الدولة كما يصفها هوبز.
وقتها لم نكن ندرك الخلفية الفلسفية بل كنا نرى الدولة كما هي آلة قاسية تشحن العظام يصفها حيدرحيدر بلغة مفعمة بالطرافة والشقاء معا.
يتقدم حيدر حيدر وتحت لسانه عظام نبتت حولها أبجديات وصدئت سلاسل أنظمة قامعة وفي صراخه المكتوم كوكبة من القتلى.
لم تعشوشب اللغة في خيالي كما فعلت مع رواية «الوليمة لأعشاب البحر» في خطوات المهدي وفي شهوات فُلة بوعناب” الثائرة الجزائرية، التي أصيبت بالهوس البرجوازي للجسد كنايةً عن تحول الثورة إلى مومس في نظام عسكري نصفه فاشي. فلة بوعناب الثائرة صاحبة البيت الذي يأوي الهاربين، صديقة الطاهر الزبيري القيادي المشهور في الثورة الجزائرية.. في زمن بومدين (العسكري، برأس إسلامي وجموح إفريقي وقلب جزائري) «فلة»، شقيقة «تفيدة» في رواية «السؤال» لغالب هلسا وشقيقة «تيريزا» في «كائن لا تحتمل خفته» للروائي ميلان كونديرا..
لا أحد يخرج عاديا من الرواية تلك، والحال أن خيالها الفادح ناسب الكثير من الطلبة وغير الطلبة وقت قراءتها، وتداولتها الأيادي، في ردهات الكلية، فانتقلت من كلية العلوم والبيولوجيا حيث قرأناه نحن ثلة من مناضلي الاتحاد الاشتراكي الطلبة إلى ردهات كليتي الآداب والحقوق، وتداولتها ليالينا الضاجة بالدخان والأحلام المجهضة أو التي لم يعرف أصحابها بعدُ أنها صارت مجهضة.. وأنها ستوضع بعد سنوات على أعتاب مقبرة جماعية صاغها بورجوازيو اليسار خفية في ركن غير صريح من الهندسة الخائنة للمستقبل…
كانت الرواية ضمن روايات قليلة زوْبعتْ الخيال والحياة معا: ذئب الفلوات لهرمان هيسة أو السؤال لغالب هلسا: (لطالما تساءلت عن القرابة بين العربي والألماني في الهلوسة الإسمية)، والمسخ كافكا وموت ارتيميو كروز لكارلو فورتيس وغيرهم كثير!..
اللغة عارمة، وعارية ومستفزة بالنسبة لقطاع واسع من حراس المعنى التقليدي للأدب. لغة أدبية متشعبة لكنها في الموقف العام للمرحلة قليلة الأدبَ، تحكي قصة الهاربين من الرق العربي المثخن إلى المغرب الواعد:
جاء جواد ورفاقه إلى الجزائر بمعنى المغرب، وأملهم «تطعيم المغرب بلوثة ماركسية» من خلال الإيديولوجيا والفلسفة، لكن الواقع هو أن الرواية فعلت ذلك بقوة…
هناك عنف رهيب في الرواية، لعل الصورة المعبرة عنه تكمن في قصة قطار الشيوعيين العراقيين في الزمن البعثي!
فيها يقوم العساكر بِطلْي عربات قطار البضائع الخالية من فتحات التهوية بالقار بعد أن كدسوا آلاف الشيوعيين بداخلها وأطلقوا القطار بسرعة بطيئة تحت الشمس اللاهبة، وعندما فتحت العربات قبل الموعد المحدد للموت الجماعي خرج البشر يتلوون في القيء والقار الساخن بنصف وعي.. مات من مات.. عاش من عاش ..في محفل الرعب الماجن تتوالى الاغتصابات البشعة وتقطير الزئبق في العيون ويزور الكهرباء الأعضاء الجنسية قبل بيوت الفقراء، ويشرع الإخصاء كأسلوب إيديولوجي ضد الأفكار!
في الرواية ما يليها دوما: محاكمة الكاتب على تجاوزه لعتبة المحرم أو المقدس أو هما معا.
بعد شهرتها أثارت الرواية تفاعلات في مصر والشرق عموما ولم تصلنا شظاياها، وصدرت بخصوصها فتاوي ومواقف هزت عرش مصر ووزارتها الثقافية، وطولب الأزهر بإصدار أحكام وتطبيق حدود الردة وتظاهر البعض وغضب البعض الآخر..
لم تمر الرواية بسلام، ولا أحد كان يعرف بالتدقيق من حرك الغضب: هل هي الأنظمة الليفياتانية التي تحكم من وراء الستار وتتحكم في الحياة والموت أم صدمة المكتوب وجرأته على جزء من الغيب!
لقد كتب حيدر حيدر بغزارة، في القصة والرواية منذ روايته «الزمن الموحش»، وترجمت كتاباته إلى لغات عديدة منها الألمانية والإنجليزية والفرنسية، وتحولت رواية الفهد إلى فيلم سينمائي ودخل مخيلات عديدة في العالم، لكني اعتقدت دوما بأن رواية «وليمة لأعشاب البحر» لن تتكرر..حتى ولو أراد كتابتها بصيغة أخرى، وما زلت على نفس الرأي بعد أربعين سنة على صدورها، وما زلت أحيانا أتساءل: عند مَنْ انتهت النسخة الأولى التي اقتنيتها ونحن على أبواب سنة حارقة في ثمانينيات الشرق المغربي؟!
ذلك الألم الذي اعشوشب بالقرب من الخسران والخيبة والانكسار، الذي قرأناه منذ أربعة عقود، تأخر كثيرا قبل أن يصل أخيرا، وقد سبقت الرواية زمنه بأربع مراحل!

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 18/05/2023