المعقول .. من اللامعقول السياسي عند تبون من خلال حواره! -2-

عبد الحميد جماهري

لا يمكن الاستسلام إلى العبث وحده في تفسير الخروج الإعلامي الأخير للرئيس عبد المجيد تبون، ولا بد من البحث عن »المعقول« في ركام اللامعقول الظاهر في الاستجواب الذي أجرته معه يومية »الرأي -لوبينيون« الناطقة باسم الرأسمال والليبرالية الاقتصادية في فرنسا.
وعليه، لا يمكن إغفال بعض عناصر التفكير الموجودة فيه، كإشارات أو رسائل أو كمرتكزات .
1ـ التهديد المبطن : أن يصرح الرئيس الجزائري بأن »البوليزاريو يطالب بالسلاح ونحن نستنكف عن تسليمهم إياه.. في الوقت الراهن«! لا يمكن أن يقرأ كرسالة تهدئة( نحن نتحفظ في تسليم السلاح إلى البوليساريو ) بل يجب أن نستكمل ويل للمصلين ونقرأ التهديد. المبطن في التصريح( لم نسلمهم لحد الساعة).
ليس السؤال هو هل الجزائر قادرة على وزن التهديد أو تنفيذه، بقدر ما أن الذي يستوجب الانتباه هو أنها تضع شرط زمان ( الحاضر) في عدم التسليم، وبمعنى آخر، فإن التسليح يمكن أن يكون غدا أو بعد غد…
والذي يستحق الانتباه هو أن الحديث عن تسليم السلاح مرتبط بإعلان الحرب في سياق الكلام، ذلك لأن الجزائر هي التي تسلح وتمول وتفتح التمثيليات الديبلوماسية وتساعد منذ نصف قرن. ولا أحد يصدق أن موقعها من القضية هو موقع الداعم بل هو موقف صاحبة قرار الحرب ..
النقطة الثانية لتسليط الضوء على فحوى التصريح: الجزائر تريد أن تلوح بأن السلم في خطر، لكي تدفع الرأي العام الدولي وأصحاب القرار في مجلس الأمن إلى تجميد الوضعية في حالتها الراهنة، على ألا يتم دعم سيادة المغرب على ترابه. وهي تلوح بذلك لكي توقف مسلسل الدعم، والذي أشار إليه السؤال الذي طرحته اليومية!
لقد سبق لنفس الرئيس أن قال إن »إغلاق الحدود وقطع العلاقات كان لتفادي الحرب«، فهل يريد أن يقول إن ساعة العد العكسي قد أزفت؟
سننتظر ونرى..
2ـ اللامعقول الكثير في تصريحات تبون يجب أن نبحث فيه عن ما هو في حكم المعقول: ومن ذلك عودته إلى الأساطير المؤسسة للإيديولوجيا الموروثة عن العهد الخروبي الراحل. ومنها تهمة» النزعة التوسعية« للمغرب. فقد أجاب عن سؤال يخص القطيعة مع المغرب وما إذا كانت ستبقى قائمة ؟ اتهم تبون المملكة بأنها كانت لها دوما تطلعات توسعية«، وساق في تبرير جوابه حرب الرمال لسنة 1963 ثم قضية موريتانيا والاعتراف بها… إلخ.
والحال أن المعضلة مع الجزائر هي أن المغرب لم يكن توسعيا ولا قدم نفسه كذلك، ذلك أنه لا يطالب بأراض ليست له، أو يريد استرجاعها بالقوة، بل إنه، دولة أو شعبا، لا يقبل التنازل عما هو أرضه ويسعى إلى استرجاع ما ضاع منه بواسطة القوة ( الاستعمارين الفرنسي والإسباني ) ( آخر الأراضي التي ضاعت منه كانت هي تندوف إلى حدود 1962).
والخلاصة : لا يقبل المغرب» التنازل عن أرضه« وسيفتخر بذلك، لا أن يكون توسعيا في أرض هي له.
وهذه أسطورة تقف وراءها استيهامات جزائرية حقيقية:
ـ أولها مسألة الحدود الموروثة عن الاستعمار، والتي يرفض المغرب أي قبول بها. لأنها في الواقع اقتطعت ترابه من كل أطرافه (شمالا،جنوبا وشرقا ) في حين تبنتها الجزائر وبنت عليها نشاطها الديبلوماسي ونفوذها السياسي الدولي، في ما سبق من عهود، ولعل القوة تتأتى من كون الدول التي كانت تنصت للجزائر ( حوالي 90 % من الأمم المتحدة ) كانت كلها من طبيعة الدولة ذاتها، أي كلها وليدة المرحلة ما بعد الاستعمار وكل أوطانها بحدود موروثة عن الاستعمار.
المغرب كان وما زال بلدا تاريخيا سابقا عن الاستعمار. ولعل ما يقلق الجزائر، التي تحاول بناء تاريخ كانت تتنكر له، هو أن هذا المنطق لم يعد ذي بال أو تأثير في العلاقات الدولية إن لم نقل إن الآية انقلبت وصارت الدول( كما يتضح من خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة ومن خلال اللجنة الرابعة الخاصة بتصفية الاستعمار ) تنصت إلى المغرب لا إلى الجزائر.
والخلاصة أن تبون الذي يجاهد في فرنسا اليوم، ويعتبر بأنه انتصر عليها، ويذكر بتاريخ الحرب الطويلة ضدها.. يعيد التأكيد بأنه ….وريث تاريخها الاستعماري!
ـ الأسطورة أو الاستيهام الثاني هو إرغام المغرب على التخلي عن أية مطالب ترابية : الصحراء وتندوف وسبتة ومليلية إلخ! قبل الحديث عن أي شيء آخر/ سواء ثنائيا أو مغاربيا. بل لعل المقصد هو أن تبون يعتبر ذلك تهديدا للجزائر، التي صنعتها الاتفاقيات المبرمة وقت استقلالها، مع … الاستعمار!
لهذا بدأ حديثه عن الثورة الطويلة وعن العلاقة بالذاكرة التحريرية وغير ذلك بدون وقع صادق، لأن التناقض يطبع العلاقة مع الإرث الاستعماري: من جهة ذاكرة حرية الثورة الطويلة، ومن جهة أخرى الحفاظ على ما تركه الاستعمار نفسه!!
ويمكن أن نسحب هذا الاستنتاج على المغرب الكبير: فالجزائر ترى أنه لا بد من اعتراف المغرب بالحدود كما تركها الاستعمار، لكي يقوم المغرب الكبير..! ولهذا ترى أن المغرب الكبير يمكن أن يقوم … بدون المغرب حتى »يتوب« عن أرضه، ولهذا تعلن بين الفينة والأخرى عن ثلاثيات مغاربية بدون البلد الذي ساعدها على الحرية!
ولا بد من بعض التاريخ.
3ـ العنصر الثالث في الأسطورة التي نحن بصددها هو بناء تحليل تركيبي بمعطيات متنافرة للاستمرار في الدفاع عن تقسيم المغرب من خلال دعم وحماية أطروحة الانفصال: تبون يؤكد لنا بأن تفكيرنا بأن سياسة بلاده غير علانية، أمر خطير ووهم حتى . ذلك أنه يقوم على ما سبق وكذلك على ما يلي:
ـ توازي الأشكال بين الجزائر والبوليساريو /من خلال القول:.استقلال الجزائر تم الحصول عليه بعد 130 سنة من الكفاح.
ـالجمهورية الوهمية عضو في المنظمة الإفريقية التي أصبحت الاتحاد الإفريقي.
ـ العدالة الأوروبية تعترف بالتدريج بحقوق الصحراويين.
ويتضح من كل ما سبق أن تبون ومن معه يفكرون بأن الوضع لا زال في صالحهم، وأن القضية ما زالت في سجلها الأول، بينما يراه العالم فشلا ديبلوماسيا لا وجود له.. وأن هناك عناصر ارتكاز لفائدة أطروحة الجمهورية الوهمية، ولذلك نفهم لماذا لا نفهم إصرارهم على الدعاية. فهم يعتمدون على ما يرونه حضورا دوليا مؤسساتيا!
4ـ الأسطورة الرابعة هي قوله:»محكمة العدل الدولية قالت بأنه لم تكن هناك علاقة ولاية للمغرب على الصحراء … اللهم إلا من علاقات تجارية«: لا أحد يطلب من تبون أن يكون خبيرا في التاريخ، ولا في الجغرافيا كذلك، لكن الجهل هنا … مقصود وله هدفه في تأويل الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية.
وبدل الرجوع إلى حيثيات يطول شرحها( منها تقرير المصير، وسياق المطالبة به من طرف المغرب وحيثيات اللجوء إلى محكمة العدل الدولية ومن طلبها إلخ إلخ )، نكتفي بالقول بأن المغرب عندما طالب برأي المحكمة كان ذلك ضد دولة احتلال هي إسبانيا، وكان ذلك لتعزيز موقفه المناهض للاستفتاء الذي كانت دولة الاحتلال تريد تنظيمه..
ـ في دفاع الجزائر عن أطروحتها أمام المحكمة كانت ترافع بأنها دولة ترث الدول الاستعمارية .
ـ لا شأن لنا بالماضي والتاريخ، وأن حدود الاستعمار هي الأساس.
ـ المغرب كان دوما يقول إنها أرضه وإن من واجبه الدفاع عنها واسترجاعها. وإن السكان بايعوا السلطان، وهي ليست مبايعة اقتصادية كما يريد تبون ..
ـ البيعة في القانون الإسلامي العام تعني السيادة.( لماذا استقال قضاة من المحكمة بسبب ذلك، وهذا الحق اعترفت به المحكمة ولا يعترف به تبون الآن، وهذا الحق هو الذي كان وراء المسيرة الخضراء. أي أن الإعلان عنها كان في نفس اليوم الذي صدر فيه الرأي الاستشاري للمحكمة..
ـ والحال أن الجزائر دفعت ودافعت عن تأويل آخر باسم تقرير المصير في إطار مغاير لإطار البيعة المعترف بها في المحكمة ومن طرفها. ولو أن المحكمة قامت بتوضيح الإطار الذي يجب أن يتم فيه تقرير المصير، أي البيعة، لكان الوضع مخالفا.(وعلى كل، كان المغرب، حسب عبد الله العروي، سينظم الاستفتاء باعتباره تأكيدا للبيعة ).
ولا يخفى على المتابعين للقضية، خصوما وأنصارا، أن السؤال الذي كان يدور حوله النقاش هو : هل تأكدت بيعة الساكنة للعرش أم لا؟ وليس ما تريده الجزائر : هل تريد الانضمام إلى المغرب أم لا؟!
ـ وعوض أن تعترف بأن التحليل السياسي الذي اعتمدته نصف قرن لم يصل إلى نتيجة نجد أن الرئاسة الجزائرية تتشبث به .

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 05/02/2025