ريادة أمنية عالمية وشهادة تقدير دولية
عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr
في الذكرى الـ67 لتأسيس الأمن الوطني، قدمت الأجهزة الأمنية»هدية» لعائلات مغربيين تم إطلاق سراحهما، يوم السبت، بعد أن تم اختطافهما في الأول من شهر أبريل 2023 من طرف عناصر مسلحة بمنطقة صحراوية على مستوى الحدود بين بوركينا فاسو والنيجر..
وتم ذلك بفضل التنسيق الأمني بين المصالح الاستخباراتية المغربية ونظيرتها النيجرية، وهو ما يكشف عن نجاعة التنسيق الأمني بين الأجهزة المغربية ونظيرتها القارية…
وتزامن تفكيك عملية إرهابية مع الذكرى السنوية للأمن، يعيد إلى أذهان المغاربة ذكرى أليمة تمت منذ عقدين من الزمن، عندما اختار الإرهابيون يوم 16 ماي، يوم تاريخ تأسيس الجهاز الأمني المغربي موعدا لضرباتهم الإجرامية، التي عمدت بالدم والنار دخول المغرب إلى نادي الدول ضحية الإرهاب.
وقد ارتبط الأمن المغربي، بالضربات الإرهابية، كما ارتبط بعدها بالنجاعة الميدانية، ذات الصيت الدولي في محاربة الإرهاب، ومنح المغرب الأداة الفعالة في رصد النبض الإرهابي وتوسيع شبكة التنسيق الدولي ضده.
ونكتشف من خلال العملية التي تمت في إحدى المناطق الأكثر التهابا وإفرازا للنشاط الإرهابي، القدرةَ المغربية ميدانيا.
منطقة التحرك الأمني المغربي، هذه المرة تعلقت بالحدود الدولية المفتوحة بين البلدين الجارين في إفريقيا الغربية، وهي حدود موضع خلافات بينهما، بل طولها أزيد من 620 كلم، مما يزيد من صعوبة البحث، في منطقة صحراوية فيها، كما أن البلدين يعانيان منذ مدة من تزاوج الإرهاب والانقلاب، بل يعيشان معا وضعا متأزما لدولتيهما باعتبار الهشاشة الكبرى في بنيات الدولة وفي تآكل الطبقات السياسية في البلدين، مما يجعل الوضع العام غير مستقر والتحرك بالنسبة لأي فريق عمل أمني أجنبي محفوفا بالمخاطرة علاوة على كونه سيخضع للرصد..
ويهمنا هنا أن نرصد عناصر النشاط الجدي للأمن في القارة، من خلال هذا النموذج ومن خلال تعاون أكثر قوة، مع دول أخرى، لا سيما الدول التي تكون وجهة للفعل الإرهابي (إسبانيا والولايات المتحدة وبلجيكا، وفرنسا في وقت سابق).
تنتمي المنطقة، إلى قلب دول الساحل، التي تستأثر لوحدها بأزيد من 70٪ من الأنشطة الإرهابية، وترد على رأس لائحة الدول التي عرفت عمليات إرهابية دامية، ويتم توقع ارتفاع النشاط الإرهابي مع تزايد التوترات ومع التدخلات الخارجية التي حولت بعضها النشاط الإرهابي إلى مقاولات سياسية ذات رؤوس أموال حاسمة في بورصة السياسة في القارة.
داخليا، استطاعت النخبة الأمنية المغربية تحصين البلاد من عدد هائل من المخططات التي رسمت للمغرب في العقدين الأخيرين، وليس أقلها تفكيك قرابة 70 خلية إرهابية منذ التفجيرات الانتحارية التي شهدتها مدينة الدار البيضاء في العام 2003.
والوضع العام لا يسير نحو الحسم النهائي مع الإرهاب، لا سيما في قارتنا السمراء، ويحتل المغرب قلب الجهاز الذي وضعته دول العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة لمحاربة التنظيمات الإرهابية ولا سيما التحالف الدولي ضد داعش، والذي عقد مؤتمره أخيرا في مراكش..بحضور ممثلي أزيد من 80 دولة ومنظمة دولية…
وفي سياق مماثل كانت بروكسيل قد احتضنت في دجنبر المنصرم اجتماعا لمجموعة النقاش المركزة لمنطقة إفريقيا.. «منصة إفريقيا». والتي يتولى المغرب الرئاسة المشتركة لها بالإضافة إلى إيطاليا والنيجر والولايات المتحدة. كما شهدت بلادنا بعد ستة أشهر من ذلك التاريخ افتتاح مقر مكتب برنامج الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب والتدريب في إفريقيا بجلسة أولية دامت يومين جمعت بين مؤسسات إنفاذ القانون والتدريب على مكافحة الإرهاب للدول الأعضاء الـ 12 للقارة…
ليس المطلوب هنا سرد ما يتم إنجازه، وهو كثير، ومنح المغرب موقعا رياديا واعترافا دوليا كبيرا، بل الإلحاح على الاستمرارية والمواكبة، حيث ما وجد المغرب تهديدا يمس أبناءه أو هناك دعوات للتعاون معه في مواجهة الإرهاب.
بطبيعة الحال لن تتوقف سجلات السنة عند هذا الجانب، في ذكرى التأسيس الوطنية، (انظر صفحة في الموضوع).. بل المهم هو أن الجدار الإرهابي هو أحد الجدران العالية في وجه السلام عالميا، والنشاط الإرهابي هو أقسى الأنشطة الإجرامية ضد الشعوب، قبل الدول والأفراد. والحال أن الذاكرة الأمنية للمغاربة تعني ماذا يريد الإرهابيون عندما يهاجمون أجهزتهم، وهم بذلك يقدرون تقديرا عاليا المهام التي تقوم بها الأدرع الأمنية للمملكة…
في مناحي عديدة يتأهل الأمن المغربي بشكل يستدعي التقدير أيضا، ويكشف عن قدرة هائلة على التطور وإنتاج النخب الأمنية (الميدانية والطبية والعلمية والمعلوماتية)، والقدرة على مسايرة التطورات والطفرات الهائلة في عالم يتغير باستمرار وترتفع حدة تحدياته الأمنية (التنسيق الدولي لوحده أطروحة قائمة الذات سواء مع كبريات الأجهزة أمريكيا وأوروبيا وأسيويا وإفريقيا، أو في مجالات التنظيم الدولي للعمل المناهض للإرهاب).
وفي لحظة الذكرى مناسبة لعرض هذا التطور الكبير الحاصل، مع أرقامه ومعطياته الوافية، مع إمعان النظر، كما تعودنا في كل سنة في ما يجب القيام به باستمرار لكي يتحقق نموذج المؤسسة المواطنة، الكاملة، بالتقدم الذي يصفق له المغاربة.. في مناسبات عديدة، كشفتها لحظات إنسانية لرجال الشرطة ونسائها بسلوكياتهم الراقية وتكريسهم للتطوع الإنساني في أرقى أشكاله…
بقية ص: 9
ومن باب إن الذكرى تنفع المؤمنين بالمؤسسات الجادة في البلاد، لا بد من أن نعيد إلى الأذهان ما كرسناه في كل 16 ماي من السنة على ضوء تجربة الارتقاء بالعمل المؤسساتي الأمني في هذا الجانب.
كيف جعل الأمنُ المغربَ شريكا دوليا حصريا ؟
بعد عقدين من الزمن، إذن وهي عمر العهد الجديد، يمكن للمؤسسة الأمنية أن تقدم حصيلتها الكبرى والعميقة العالية، بدون الحاجة إلى شيء آخر سوى صحيفتها في ثقافة النتيجة أي ما تحقق فعلا ..
إن الإنصاف، مضاعفا بالامتنان، يقتضي أن نعترف بالمجهود الخارق الذي تحقق في العقدين الأخيرين في تثبيت تجربة مغربية محضة وخالصة في تدبير أحد أكبر الملفات الشائكة في التاريخ المعاصر، وهو الإرهاب، ويقتضي أيضا أن نقر بوجود قفزة عالية في العقيدة الأمنية المغربية، مست جوانب عديدة وحققت طفرات عدة، قد تستوجب الكثير من الأطروحات.. غير أن الاعتراف الدولي والإقليمي يجعلنا نركز على المناسبة، والمناسبة شرط كما يقال، في قضية صارت لها انعكاساتها الجيواستراتيجية وتقلباتها السياسية وآثارها الاقتصادية والعقائدية والمجتمعية هي قضية الإرهاب ومواجهته..
لقد حقق المغرب لنفسه فعالية شكلت حصنا واقيا، وتملَّك الخبرة والمهارة اللازمتين لمواجهة آفات القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين.اعتمد على الثقة في المؤسسات، وفي أبنائها، واعتمد على العقل المغربي في تدبير الجريمة العابرة للقارات والحدود وما بعدها، وقرأ بالعين الثاقبة ما يمور في الجغرافيا الإرهابية.
وإلى ذلك اكتسب صناعة مغربية خالصة في الأمن مكنته من أن يفلح في تأمين الجبهات الأخرى ضد الإرهاب، الدينية منها والفكرية والتنموية والاستخباراتية.
ليس عاديا في شمال إفريقيا، وفي الدائرة العربية الإسلامية، أن تتكرر السنوات وتتشابه، ولا يحدث أي فعل إرهابي، بالرغم من الانفتاح وتدبير الهجرات وتقاطع التهديدات…
ومحليا أصبحت السنوات تمر، والخلايا المفككة تتكرر، ويتكرر معها الوعي بأن المحاولات والاستقطابات لن تتوقف، ولكن تظافر الجهود الإرهابية لا يعني أبدا نجاحها في المرور إلى التنفيذ، ولا يعني القدرة على التسلل إلى التربة الوطنية أو النجاح في خلق بيئة شعبية حاضنة للإرهاب…
الذي حصل هو أن محاولات استنبات الإرهاب، لم تنجح بالرغم من التخصيب الممكن أن تلعبه الظروف الإقليمية، والعربية والدولية… والعناصر المساعدة على انتشاره. وبالرغم من عولمة الإرهاب، ووجود المغرب في دائرة التلاقي بين مناطق التوتر الكثيرة،( شمال إفريقيا والصحراء والساحل. والشرق الأوسط.).
وبالرغم من وجود أعداء في كل جبهة من هاته الجبهات.. فإن المغرب استطاع أن يقنع بما توفر عليه من خبرة ومن بنك معلومات، فتحققت له استراتيجية شاملة من عناصرها حصول تعاون دولي وإقليمي في سياسة مكافحة الإرهاب..
ولعل الإشادات، وأكثر منها تضمين كل تقارير العالم الموجودة بخصوص ما قدمته قوات الأمن المغربية للعالم، حيث وظفت جميع معلوماتها الاستخباراتية والأمنية وتعاونها مع شركائها الدوليين لأجل خدمة الهدف الأسمى الذي زعزع كبريات الدول.
ولا توجد، من هذه الناحية، أي جبهة أو بؤرة عمل محليا أو إقليميا أو قاريا. لا يوجد فيها المغرب، من المنتدى الدولي لمكافحة الإرهاب إلى التحالف الدولي للقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية.المغرب موجود في كل ركن من جهات العالم قد توجد للإرهاب فيه يد أو خلية أو نية فعل..
إن الجديد الرفيع الذي نسجل هذه السنة، ونحن نقرأ آيات الترحم على شهداء الإرهاب الدموي، هو تكريس المغرب محطة إجبارية في ترتيب الرد الدولي على الإرهاب، كما دلت على ذلك فعاليات المؤتمر الأخير الذي احتضنته مراكش.
وفي غير ذلك، تبين أن الدول الرائدة في الحرب على الإرهاب، حسمت شراكتها واختارت المغرب، بعد أن كانت الكثير من العواصم تطمح إلى ذلك.
لقد قدم المغرب عرضا Offre جد مقنع، لأنه يتضمن نجاعة ميدانية، وحصيلات مرقمة ومقاربات استشرافية، تتكامل في ما بينها لتكشف الجدية والمعقولية التي تميز عمل أجهزته المختصة..
ومن عناصر الجدية والشمولية، تحول القارة الإفريقية إلى موضوع دولي من جهة الرد على الإرهاب.
لقد انتقلت بنية التنظيم الإرهابي من شرق آسيا إلى الشرق الأوسط، وهي تسعى إلى تثبيت كيانها في التراب الإفريقي، وقد كان المغرب من أول الدول التي نبهت إلى هذا التحول … ليس سرا أن المغرب اشتغل ويشتغل بتتبع ودقة على الأوضاع التي تعم إفريقيا، ويوفر لذلك المعلومات الضرورية، من خلال الاستخبار وتوظيف التكنولوجيات الحديثة ومن خلال جمع المعلومات والتعاون حولها مع كل الأطراف. وهو مجهود مغربي محض، يجعل حتى بعض الأجهزة التي اعتبرت، لردح طويل من الزمن، إفريقيا مجالها الحيوي الحصري «تغضب» منه وتحاول شيطنته، وتسعى إلى شغل أجهزته عن عمق مهمتها وآفاق تطورها.
إفريقيا، قارة الألم والقساوة والبحث عن موقع تحت شمس العصر، ولهذا ربما هي أيضا «إفريقيا التنمية الإرهابية»..
إن المغرب مؤمن بأن المقاربة الأمنية وحدها ليست كافية، ولكنها هي التي تُؤَمِّن المقاربات الأخرى، وتجعلها ذاتَ امتداد وضرورةً، وكما اقتنع بذلك، فهو يقنع دول إفريقيا بذلك، ويعتمد على الأمن بكل مكوناته الروحية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية… إلخ.
والثابت أن الأمنيين من أكثر الأطراف اقتناعا، كما تدل على ذلك الحوارات والتقارير والخرجات الإعلامية للمسؤولين في كل أسلاك الأمن والاستخبارات.
هذه قناعة دولة وقناعة موَحِّدة..
ولعل إفريقيا ستربح الكثير من هذا التوجه…
النقطة الثالثة، بالرغم من أنها ليست وليدة اليوم، بحيث يعود مدلولها العميق إلى مبتدأ الصراع الذي يخوضه المغرب مع كل عناصر ومحاولات تفكيك وحدته الوطنية أو تماسكه المجتمعي، تتعلق بارتباط الإرهاب والانفصال في المخيلة الجماعية للمغاربة، لأن كلا منهما يهدف إلى عملية تفكيك واسعة: واحدة ترابية والثانية بشرية..ولهذا أدرك المغرب، مبكرا، أن التواشج والترابط بين الانفصال والإرهاب هي عملية حيوية لهما.
فكل إرهاب يسعى إلى تفكيك الدول لكي يقيم دولته (تجربة أفغانستان وسوريا والعراق)، بحيث لا يمكن أن يقيم الإرهاب كيانه إذا هو لم يمزق وحدة الأمة الترابية والإنسانية بل العقائدية، كما أن كل انفصال يستعمل جميع الوسائل وعلى رأسها الإرهاب والترهيب، والعمليات التي قامت بها تجارب عديدة من قبيل «إيتا» الإسبانية و»الايرا» الإيرلندية تدل، بلا مجال للشك، أن الإرهاب مقوم من مقومات الانفصال، وهما يتغذيان من بعضهما البعض.
في شريط الساحل وجنوب الصحراء، نعاين محاولات تفكيك مالي مثلا لكي يحلو للتنظيمات الداعشية بناء دولتها.. وهو نفس الشيء الذي يحدث في نيجيريا وفي دول إفريقية أخرى.. والانفصال مثل الإرهاب، مُعدٍ !
وعليه فإن الُمسلَّمة الحالية في كون الانفصال والإرهاب تؤأم من رحم واحدة، هي دليل قوة استطاع المغرب الحصول عليها باعتراف دولي وقناعة عالمية…
والسياق يستوجب منا أن نعلق على حدثين غير متباعدين في الزمن لكنهما على تواشج في الشحنة وتباعد في الجغرافيا:
ـ انسحاب قوات الحلف الأطلسي من أفغانستان، التي وصلتنا شظاياها في بداية الألفية الثالثة ووصلنا جنودها في شخص الأفغان المغاربة من الموجة الأولى.
ـوحدث انسحاب فرنسا بعد عملية «برخان» من مالي حيث البلاد تتأرجح بين الإرهاب والانقلاب…
علاوة على ذلك، فإن الدولة التي أرادت أن تفرض الانفصال، هي نفسها الدولة التي حاولت إبعاد المغرب من محاربته ونقصد بها الجزائر، من خلال استبعاد بلادنا في تشكيلتين إفريقيتين من قبيل لجنة القيادات العليا للعمل المشترك .. وهو دليل على عجزها عن تحديد العدو ! ولا ترى سوى المغرب..
كما أن فلسفتها الأمنية اعتبرت بأن المنظمات غير مترابطة في ما بينها وتعمل على شكل مجموعات مستقلة، بشكل أثار الاستغراب وأجهض محاولاتها منذ انطلاقها..
ومما يثير الاستغراب أيضا خوفها المستمر من أن تستقل الدول بعملها في قضايا محددة، بعيدا عن وصايتها المُلغِزة!
لقد تجمعت لدى الأجهزة المغربية ما يكفي من المعطيات التي تجعلها تقنع العالم بأن مخيمات تندوف تحولت إلى معسكرات مختلطة الأجناس، تتعامل فيها عناصر مختلطة لصنع خلطة إرهابية انفصالية مقلقة.
وبالنسبة للعالم أيضا فإن من الصعب إن لم يكن من المستحيل وجود دولة انبنت على الإرهاب الانفصالي والانفصال الإرهابي في منطقة تلغمها جماعات إرهابية على المحيط الأطلسي ، ولعل مواصلة الجزائر رفض تحديد هوية الساكنة وتسجيلها ومعرفة توجهاتها من العمليات التي تضاعف من حظوظ تحولها إلى مختبر تفاعلي للإرهاب والانفصال…
والخلاصة؟ هو تطوير المغرب لذاته في مجال حديث العهد بنا ونحن حديثو العهد به،هو الإرهاب الديني.. وذلك بفضل تطور العقيدة الأمنية للمغرب وترابطها مع مقاربات أخرى تسند بعضها البعض وانتقالها إلى مراتب عالمية في النجاعة، وبفضل قيم نكران الذات وفي الولاء للبلاد وثوابتها ..
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 16/05/2023