لنكن جديين …ونسمي الأشياء بمسمياتها!
عبد الحميد جماهري
وضع ملك البلاد قيمة الجدية كشرط تعاقدي بين الدولة والمواطنين، وبينها وبين الفاعلين بالدرجة الأولى، ونبه إلى اشتراط وجودها كقيمة من قيم الفضيلة، وبذلك فهي لا تقوم إلا على تضاد معين، تضاد وجودي، يضع نفسه كشرط وجوب آخر.
فالجدية عندما تكون نظام حكم ونمط تسيير، هي منح الشرعية الأخلاقية لما يتم إنتاجه من ثروات، ومن مواقع ومن منجزات.
الجدية هي كذلك تعاقد من أجل أن تكون للمنجز شرعيته!
ونحن نتحدث عن شرعية المنجز، التي تعادل وقد تسوغ أحيانا الشرعية الديموقراطية، لعلنا نغامر ونسأل : ما جدوى وجود منتخب حاصل على الشرعية الديموقراطية ( حقا أو باطلا) إذا لم تكن تلك قاعدة للمنجز الذي يحصل على شرعيته من تحققه؟
كما نسأل بدون شعور بالمجازفة: ما جدوى وجود تعيين في منصب حكومي أو تسييري إذا لم يكن صاحبه يحرص على شرعية الإنجاز؟
لهذا نحن نطرح الجدية، التي وضعها الملك في نسيج قيمي يرتبط بالدولة …
جدية تخترق الطبقات كلها، الاجتماعية والتدبيرية والمؤسساتية والوجودية، للكيانات، كانت فردية أو جماعية، ولا تقوم إلا إذا كانت قادرة على تقليص أدوار القيم السفلية الدنيئة:
الانتهازية
العبث
التفاهة
اللامعقول
والزبونية… إلخ.
الجدية بعيدا عن الأخلاق الطفيلية والريعية والكسل المقدس والمقنن والتهاون والحربائية والولاء المزيف والتزلف والانبطاحية.. إلخ.
ليست المرة الأولى التي يشير فيها الملك إلى ضرورة القيم.
فقد سبق في خطاب الافتتاح بالبرلمان في 2018 أن رفع شعارا يحمل الجدية كمكون للمرحلة التي سماها مرحلة «“روح المسؤولية والعمل الجاد».
وهنا عرف الملك المغرب بأنه وجوبا» بلد للفرص، لا بلدا للانتهازيين».
لعلنا نعتقد بأن جلالة الملك يجدد دعوة القيم ولكنه يدشن انطلاق مبادرة المواجهة مع … الريع الأخلاقي والقيمي!
وهو ما يعني، على مستوى التسيير والتدبير، بروز وطنيين حقيقيين، رجال دولة صادقين يتحملون المسؤولية بكل التزام ونكران ذات.
فهو عندما يعلي من قيمة الجدية، يفعل ذلك كي تكون المعيار الوحيد في التدبير والعلاقات والشراكات بين الدول والأمم، كما بين الفرق والجمهور، وبين المواطنين والمسؤولين، وبين المؤسسات والمشاريع …
علينا أن نتحمل مَواطن الجدية ومواقعها: الرياضة، الديبلوماسية، الاستثمارات، الابتكارات…
وعليه، كثيرون اليوم يفسدون الجدية بعدم جديتهم في أخذها بكل جدية، لا سيما وهم يتحدثون عنها وهم لا يتوفرون عليها.
على كل من يريد أن يتحدث عن الجدية في خطاب الملك أن ينظر جيدا وجديا في المرآة.. ويطرح نفسه للمساءلة الذاتية قبل الجماعية…
لعلنا لن نجانب الصواب إذا قلنا إن استنهاض قيم الجدية، في ارتباط بـ» خصال الصدق والتفاؤل، وبالتسامح والانفتاح، والاعتزاز بتقاليدهم العريقة، وبالهوية الوطنية الموحدة… والتفاني في العمل»!
مركزية القيم في بناء مفهوم الدولة، وتطوير أدائها كما في تفسير انتصاراتها.
واليوم يطلب الملك جرعات قوية من الجدية للانتقال إلى المرحلة القادمة، مرحلة متقدمة في تعزيز قوة المغرب، وهويته الديبلوماسية، وشخصيته الدولية، وقدرته الإقليمية، وتحقيق التشبيك الاقتصادي القوي في عالم متغير..
بالرغم من وجود مقابل دستوري للجدية من خلال تفعيل ربط المسؤولية بالمحاسبة فإن ما يريده الملك أكبر، هو يريد شرعية أخلاقية، عبر الجدية ونكران الذات، لوجود مؤسسات الدولة وأيضا لوجود أفرادها، وبنود عقد أخلاقي قوامه الجدية والوطنية والقيم الأسرية، والتي تبني جسور التنمية، أي البناء القيمي للشعب ـ الأمة، المالك لسيادة الدولة وصاحبها.. ولعل ذلك ما يحيلنا، في سياق آخر، على تلك المحاضرة الشيقة للدرس الافتتاحي الرمضاني في ماي 2019 حول موضوع «استثمار قيم الدين في نموذج التنمية «…
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 01/08/2023