مرافعات في الشكل حول التعاقد1/2
عبد الحميد جماهري
إن الحكمة، في أحيان كثيرة، هي الشكل الأليق للشجاعة ، ولا سيما السياسية منها
كيف يمكن للحكومة أن تجمع – في نفس الوقت – بين الحاجة إلى اصلاح الوظيفة العمومية وتقليص النفقات العمومية، الخاصة بالمرافق الأكثر حيوية، والقدرة على تقديم الخدمات المطلوبة من القوة العمومية المؤسساتية، ممثلة في المصالح العامة؟..لعله السؤال المضمر في الاستعصاء الواقع حول التعاقد، وما أحاط به من توتر أدى إلى تدخل عنيف لفك اعتصام عشرات الآلاف من الأطر.
غير أنه في الوقت نفسه، السؤال الذي لا يجد الكثير من الفاعلين السياسيين أنه يستحق النقاش العام، أو يستوجب إعمال الفكر والاجتهاد، والاكتفاء بمواقف مسلوقة على سبيل الموقف السريع والعابر..
قد نكتفي بإعلان التضامن مع الأساتذة، والتنديد باستصغار حقهم في الاستقرار الوظيفي أو حقهم في السلامة الجسدية..
ونخرج من الموقف الصعب بأقل تكلفة سياسية إن لم نقل نجني تاكتيكيا ثمارهذا الانحياز، المطلوب في النهاية.
غير أن القضية تستوجب ما يلي:
– لا يمكن أن نفهم لماذا يكون التحلل العلني من مسؤولية الصيغة المعتمدة في تدبير التوظيف في قطاع استراتيجي رهيب مثل التربية الوطنية، هو الحل.
فهل يعقل مثلا أن يترك إشكال من قبيل مصير قرابة 70 ألف أستاذ متعاقد، وآلاف التلاميذ، إلى المسايفة السياسية داخل الأغلبية وخارجها؟
– لا يمكن أن تعبر المعارضة، المسؤولة والناضجة، أن أقصى ما يمكن أن تفعله هو أن تبرز الضعف الحكومي في تدبير ملف حارق، بل أن تقترح الحل ونقيضه في قضية صعبة للغاية من قبيل التقاء الحق في التعليم مع الحق في الشغل، لقاء التربية والوظيفة العمومية، إصلاح الوظيفة العمومية والكلفة المحاسباتية… إلخ،. فالمعارضة، تلتقي مع جزء من الأغلبية في مطلبين متناقضين: إلغاء التعاقد، وتحسين العرض الحكومي في هذا المضمار:فكيف نعمل على تحسين جودة شيء .. نلغيه؟؟؟؟
-لا يمكن أن تلغي المعارضة من الحسبان أنها تتجه إلى التسيير بعد الانتخابات. وعليها أن تفكر في الأمر بما هي حتمية لا بد من مواجهتها بعد الانتخابات وبناء على توازنات ما بعد 2021…، وهي لا يمكنها أن تقفز على سؤال التعاقد غدا، ولا يمكن فهم موقفها الآن، اللهم إذا كانت تريد أن تدفع الحكومة الحالية إلى الحد الأقصى من تدبيرالحل، إما في تمرير الخيار كاجراء استراتيجي، وبالتالي توفير العناء في المستقبل عليها، أو إلغاؤه وتحريرها منه غدا.
وهي مفارقة قد تصل إلى حد المغامرة بوضع عام قابل للاشتعال..
– لا يمكن أن تنسب كل خرجة احتجاجية إلى .. قوى قابعة في الظل، قوى صامتة قادرة على الخروج من قمقمها في كل غضب.
أولا، علينا الإقرار بأن القوى -المفترضة أو الحقيقية – التي تستطيع أن تعبئ عشرات الآلاف من الناس ودفعها إلى الشارع مع ما يصاحب ذلك من مواجهات عنيفة، تستحق فعلا أن نجلس معها على مائدة التفاوض، هي قوى قادرة على التعبئة.
ثانيا، لا يمكن أن نعترف لها بهذه القوة ولا نعترف لها بالقدرة على التفاوض، وبسؤال آخر، هل يمكن ألا تتفاوض مع من يستطيع تعبئة آلاف الأطر والأساتذة، وتحميسهم، اذا كان موجودا بالفعل بالصيغة التي يراد بها تعميم الخبر؟
– والحقيقة الواضحة هي أننا أمام أساتذة ومطالب واضحة لا دليل قائم على القوى الخفية في كل مرة، الكل يعرف الكل والدولة سيدة العارفين.
ومن مصلحتها أن تتحاور من أجل الحل، ومن أجل الوصول إلى فك العقدة ( أو التعاقد)، لا أن تجعله في …المنشار.
-كما أن الحوار هو الذي يمكنه أن يبرز نقط القوة ونقط الضعف في القضية، ويقنع الذين يريدون الاطمئنان والسلامة المهنية ويريدون استقرارا اجتماعيا، وبدونه لن يستمع أي أحد لأي كان..
إن الحكمة هي، في أحيان كثيرة، الشكل الأليق للشجاعة، ولا سيما السياسية منها …
– لا يمكن أن نعفي أنفسنا من حوار وطني حول النموذج التوظيفي الجديد، إذا كنا قد قبلنا الحوار الوطني حول النموذج التنموي الجديد.. وعليه ماذا لو أطلقنا بالفعل الحوار، كما تفعل العديد من الدول عند هذا المقتضى بالرغم من اجرائيته وانتسابه إلى القرارات التي تتحمل المسؤولية فيها الحكومة.فالأمر يطلب طرح السؤال: هل يقبل المغاربة الكلفة المالية، وتبعاتها في العلاقة مع المؤسسات المالية الدولية، وإذا قبلوا بذلك يكون الجميع أمام مسؤولياته.
– لا يمكن أن تبقى القضية بدون تأطير جديد، ضمن الحركية الكبرى للغضب الاجتماعي. فلا أحد يمكنه أن يتصور أن الأمر ، معزول، وقطاعي ضيق، بقدر ما هو مؤشر على شعورعام بأن الثقة في واد وقطاعات واسعة في واد، وهو مؤشر على أن التاطير الكلاسيكي للمطالب الاجتماعية قد استنفد قدراته وأنه صار تابعا.
ولا يمكنه أن يساير هذه الحركية، حتى ولو كانت ضمن سلك من أسلاك الوظيفة العمومية كالتربية الوطنية، وليس فقط في الحراكات الكبرى كما في الريف وفي جرادة..
– الحملة الانتخابية الدائمة، التي دخلنا في دوامتها مباشرة بعد تشكيل الحكومة، يتضح أنها تستوعب جل المجهود إن لم نقل كل المجهود لدى جزء من مكونات الحكومة.
كما لو أن الانتخابات تجري في المغرب بعيدا عن شبكة القراءة الاجتماعية والحصيلة على الميدان ، كما لو أن حل المشاكل ليس ضروريا للتداول الديموقراطي على الحكومة!
نحن بالفعل نعيد التجربة المرة السابقة حيث ظل الصراع حول مفاهيم من خارج الحقل أو الحقل الاجتماعي……هو محور التنافس السياسي في الشارع العام. والنتيجة يعرفها الجميع…
-لا يمكن أن يظل الرئيس السابق للحكومة. الذي كان وراء تحويل التعاقد إلى خيار »استراتيجي» للدولة، مصدرا للنقاش السياسي، ومصدرا فيه، وأحد ظلاله الطويلة الممتدة فوق ظلال الرئيس الحالي، فالأمر لا يتعلق بلعبة ظلال بقدر ما هي خيارات صعبة، يتم فيها توريط القوات العمومية بالقرار السياسي الذي اتخذ الآن بناء على خيار تم أمس!
الأمر ليس بالسهولة التي يوحي بها التعامل العابر، ضمن مقومات التواصل الاجتماعي كما يمارسها أبسط الناس..
ويمكن العودة إلى السؤال الأول:
كيف يمكن للحكومة أن تجمع – في نفس الوقت – بين الحاجة الى إصلاح الوظيفة العمومية وتقليص النفقات العمومية، الخاصة بالمرافق الاكثر حيوية، والقدرة على تقديم الخدمات المطلوبة من القوة العمومية المؤسساتية، ممثلة في مصالح العامة؟.
وفي هذا الخضم ، لا يمكن أن نفهم كل هذه الحمى داخل الحكومة والمعارضة بمقاربة الموضوع بكل الطرق إلا الطريقة التي يجب بها مقاربة الموضوع: التحلي بالجرأة ومواجهة الكلفة السياسية لقرارات كل واحد على حدة،وتغيير زاوية المقاربة، لأن الأمر يتعلق بخيار ستعود إليه الدولة في القادم من الأيام ولا شك.
والقادم ولا شك سيكون أصعب ويستلزم قدرة أكبر وقوة سياسة أكبر والتزاما أكبر بالحد الأدنى للبرنامج الحكومي المتفق عليه..
هذا ترافع في الشكل، والمضمون لا شك أنه سيتحدد عندما تتوفر كل حيثيات الشكل وضمها إلى الجوهر!
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 26/03/2019