المؤرخ عبد الله العروي يحلل ويناقش ويعلق على خطب الملك محمد السادس ويكشف خلافه مع الديبلوماسية المغربية
عبد الحميد جماهري
بهدوئه المعتاد، وبقدرته على التتبع، يكشف عبد لله العروي، خلافه مع الديبلوماسية المغربية حينا، واتفاقه مع ما تهدف إليه حينا آخر. وهو في التعبيرعن مواقفه يجري نوعا من الحوار، المصاحب للتحرك الديبلوماسي أو الحوار البعدي مع خطب الملك، وتحليل النخبة الوطنية. أول محاورة، يمكن أن ننتبه إليها، يسعى إليها المؤرخ مع خطاب الملك، تتم بمناسبة خطاب العرش في 2021.
وفي ذلك كتب العروي تدوينته في اليوم الموالي ( أي 3 غشت) معنونا إياها :بخصوص خطاب العرش. وفيها يكتب أن »الكثير من المعلقين تفاجأوا إذ كانوا يعتقدون بأنه مسموح لهم بتعداد كل المساوئ التي يفكرون فيها ضد الجزائر والجزائريين، وانخرطوا في ذلك الواقع بفرح غامر. وإذا بالخطاب الملكي يكتسي نبرة أخرى. ويقول العروي إن المغاربة، لم يفعلوا سوى أنهم ردوا، وبشكل متأخر، على ما كان الصحافيون والسياسيون، وأحيانا كبار المسؤولين الجزائريين، يرددونه شهورا بل سنوات. وهكذا كما اعتقد الكثيرون بأن خطاب (المسيرة) يهدف إلى وضع الحكومة الجزائرية في مأزق ويُشْهد الشعب الجزائري والرأي العام الدولي عليهم ..
ويستنتج العروي بأن» الأمر قد يكون كذلك، بدون الحاجة إلى التشكيك في صدق العاهل، ذلك لأن بعض الصياغات التعبيرية لا تخفي معانيها وتعبر جيدا عن سيكولوجيته»..
ويفسر العروي المنحى الذي اتخذته عبارات الخطاب وروحه، بعنصرين آخرين، ويعتبر أن السبب العميق الأكثر احتمالا مغاير. لما سبق. وهو في تقديره موقف مبني على مؤشرين اثنين: تأخر الخطاب ب24 ساعة عن موعده السنوي ورحلة نائب وزير الخارجية الأمريكي إلى الجزائر ثم إلى الرباط.، وهو ما وجد المعلقون المأذون لهم صعوبة في تبريره. ويجزم العروي بأن »الخطاب كان في الأصل سيتحدث عن شيء مغاير، ولكن الأولوية التي يمنحها الأمريكيون للجزائر، كانت إشارة موجهة إلى العاصمتين«.
وفي سياق البحث عن تفسير لنبرة خطاب الملك في عيد المسيرة لسنة 2021 والداعي إلى روح المصالحة مع الجيران، يورد عنصرا أوروبيا، يتعلق بالدول الموجودة شمال المتوسط، والتي لا يحركها سوى هوس واحد، هو تدفق مهاجري الجنوب، ولهذا »فهم لا يرغبون في أن تقع أزمة خطيرة في الجزائر«. وهو في نظر العروي السبب الذي يفسر» تساهلهم مع النظام- كما فعلوا ذلك سنين طويلة مع القذافي ـ وحرصهم على التوازن في علاقاتهم مع البلدين الرئيسيين في المغرب الكبير .« .
وهو يعتبر من جهة أخرى أن هذا »هو المعنى الحقيقي للتقرير الألماني الشهير،» والذي أساء الصحافيون المغاربة فهمه! وهو في الواقع عندما يعاكس ما ذهب إليه الصحافيون بخصوص التقرير، يقوم بنفس الشيء مع ما ورد في الخطاب ذاته، ذلك أن محمدا السادس تحدث بوضوح كبير في الموضوع: ومما ورد في خطاب الذكرى 68 لثورة الملك والشعب، هناك تقارير تجاوزت كل الحدود. فبدل أن تدعو إلى دعم جهود المغرب، في توازن بين دول المنطقة، قدمت توصيات بعرقلة مسيرته التنموية، بدعوى أنها تخلق اختلالا بين البلدان المغاربية.«
وفي الواقع كان التقرير الألماني مستفزا في خلاصاته ودعواته، ذلك التقرير الصادر عن المعهد الألماني للشؤون السياسية والأمنية الذي أوصى بفرملة تقدم المغرب وإعادة النظر في دعم الاتحاد الأوروبي للمغرب حتى تتمكن دول مغاربية من اللحاق به، بمعنى آخر يريد أن يجمد تطور بلادنا، وهو ما يدل على خطورة الوضع، كما قال العبد الفقير لرحمة ربه، عقب الخطاب المذكور، وذلك في لقاء مباشر خاص على القناة الثانية رفقة العزيز جامع كلحسن..
ويقر عبد الله العروي أنه من الوارد جدا أن »تكون الهجمات النابية وغير الموضوعية التي تبثها وتنشرها الصحف الجزائرية لشهور عديدة قد أثارت حنق الملك. ولهذا ربما اعتقد البعض بأنهم كشفوا تغيرا راديكاليا للسياسة جسدته مبادرات بوريطة وتصريحات عمر هلال . وهو ما قد يكون لم يعجب التمثيليات الديبلوماسية الغربية. ولا شك أيضا أن الوزير الجزائري للشؤون الخارجية الجديد قد استغلها في تقوية حججه والتذكير بأن كل فعل يستهدف زعزعة استقرار الجزائر سيكون له آثار سلبية على الدول الأوروبية«…
مما سبق يستنتج المؤرخ بأن المسؤول الأمريكي في الخارجية قد عاد مسرعا لتهدئة الخواطر ويطمئن الجزائريين على الخصوص بأن المغرب لم يحصل على الضوء الأخضر إذا ما هو أراد أن يلعب هاته الورقة،« ولا شك أيضا، حسب العروي، أنه جاء» ليضع النقط فوق الحروف مع مخاطبيه المغاربة«. ولعل العروي قد استنتج من ذلك أن »عمق الخطاب هو هذا،« أي طمأنه الجزائريين بأن الشر لن يأتيهم من المغرب أبدا. ويخمن العروي كذلك أن تنبيهات وتحذيرات مماثلة قد صدرت من جهات أخرى!
يسائل العروي نفسه مستنكرا ما إذا كانت هاته مجرد »تخمينات« أو تخرصات؟ ولا يستعبد أن تكون كذلك، لكنه. يضعها فوق وأحسن من تحليلات المحللين والمعلقين المأذون لهم،باستثناء أن هاته الجهات التي تتولى التحليل لا تشير إلى هاته المؤشرات أعلاه.
ويدعونا العروي إلى عدم إغفال مؤشر ثان أو إضافي، ويتعلق بالعروض التي قدمتها الجزائر بخصوص الوساطة في قضايا في تونس وليبيا والخلاف بين مصر وإثيوبيا بخصوص سد النهضة على النيل.» وهنا يجد للتقرير الألماني تبريرا في خدمة هذا الهدف، بحيث يرى بأن التقرير الذي عاب على الإعلام المغربي عدم فهمه، ما هو إلا إلحاح »من أجل إعطاء الجزائر دورا، كما كان ذلك هاجسا لدى الأمريكيين وقت كارتر(جيمس).«..
ولعلها إشارة إلى الموقف الأمريكي الرافض لتسليح المغرب في الفترة . وهو ما ورد في “مذكرات البيت الأبيض” للرئيس المذكور أعلاه. ويستفاد منها أن »كشفت أن “المغرب كان ممنوعا من استعمال الأسلحة الأمريكية، خارج الحدود المعترف بها من طرف أمريكا؛ بمعنى أنه كان ممنوعا عليه استعمالها في الصحراء المغربية، في الوقت الذي كان في أمس الحاجة لها، وهو يواجه أعداء الوحدة الوطنية”.« على حد قول عبد الله ساعف.
( ولا بأس هنا من الإشارة إلى أن تلك الفترة الحرجة هي التي دفعت الملك الراحل إلى إبرام اتفاقية يستغل الاتحاد السوفياتي بموجبها الفوسفاط لمدة ثلاثين سنة . وهي المرة الأولى التي سيسمع فيها العالم عبارة صفقة القرن، من خلال حواره مع الصحافي جلال كشك مبعوث النهار اللبنانية في 20 يناير 1978)
ولعل ملخص الموقف الأوروبي والأمريكي في هذا الباب هو أن الغرب يفضل »منح الجزائر دورا حتى يتم منعها من إحداث الفوضى أو الفتنة«. ويرى العروي بأن »خبراء المخابرات المركزية الأمريكية يفسرون بهذا الكشف سيكولوجية الحكام الجزائريين«.
وبما أن الجزائريين قد تلقوا هذا النوع من التهدئة من طرف القوي الغربية، يضاف إلى الدعم الذي يقدمه حلفاؤهم التقليديون( وهي إشارة إلى الروس وجنوب إفريقيا وإيران ولا شك) فإنهم قد يعتبرون بأنهم غير مجبرين على التجاوب مع عروض المغرب!!
وهم لن يفعلوا ذلك »اللهم إلا إذا صارت الوضعية الداخلية لبلادهم في وضع مقلق للغاية أو أن العسكريين اقتنعوا بأن الحرب ليست حلا، أو أن تصعيدا أو توترا مصطنعا سيكلفهم كثيرا!.
والحقيقة أن عسكر الجزائر يدفع الغالي والنفيس من أجل حماية هذا التوتر وتغذيته والإبقاء عليه.
بعد أسبوعين يترسخ الموقف عند عبد الله العروي: نحن والجزائريون لسنا شعبا واحدا!
بعد مرور أسبوعين على الحدث، يعود العروي إلى العلاقات المغربية الجزائرية، يوم 19 غشت من نفس السنة. ويبدو أن اقتناعه قد ازداد بأن العلاقات بين البلدين لن تتحسن في القريب العاجل. يورد أنه من غير المعقول الاعتقاد بأن تحسنها ممكن، وأن »ذلك رهين بفعل شخص واحد ولو كان على رأس الدولة«. وهو بهذا المعنى يريد أن يبرهن بأن المجهود الذي يقوم به الملك من خلال اليد الممدودة، لن يكون له أثر في المدى المنظور، ولو كان ذلك عملا صادرا عن ملك المغرب أو … الرئيس الجزائري باعتباره. أن الرسالة الملكية في الخطاب توجهت إليه مباشرة!
ويفكك العروي ثابتا نعيش عليه سوية، نحن والأجيال السابقة، وهذا الثابت الذي هدمه العروي يقول »إننا نداوم على القول بأننا نفس الشعب«، أي أننا شعب واحد، ولكن الحقيقة أننا أمام شعب آخر« إذا افترضنا بأننا نحن لم نتغير .. ويعطي مثلا بأن الفرنسيين لم يجدوا أنفسهم أمام نفس الشعب الألماني في 1940 و1920، أي أن الشعب الألماني في 40 لم يكن هو شعب ألمانيا في 20. . وهو ما يجعله يقول ،استنتاجا،» نحن نعرف ثمن ذلك« التغيير الذي حصل. وتأكيدا للمعاينة يعاكس العروي التحليل والقرارات ولربما الشعارات التي ترى بأن هذا الوضع سيتغير عندما سيغيب هذا الجيل،» ويقول نحن لا نعرف ماذا يدرس الشباب الجزائري في الأقسام المدرسية عن تاريخهم وتاريخ جيرانهم، ولا نعرف ماذا يقولون لهم في المدارس الإدارية والثانويات العسكرية، ولا ما تعلمه الموظفون المدنيون والديبلوماسيون والضباط…. إلخ إلخ طوال سنين، وما يستمرون في قراءته في الإصدارات الرسمية لن ينمحي من أذهانهم بين عشية وضحاها. بتذكيرهم بالنضالات المشتركة لأجل التحرير ولا مؤتمر طنجة واتفاق مراكش إلخ إلخ..
لم نعد نتكلم نفس اللغة
ونحن لم نعد نتكلم نفس اللغة حتى وإن كنا نتكلم نفس الدارجة، بهذه الطريقة الحاسمة يتحدث العروي عن المشاركات التي صارت بدهية بين المغاربة والجزائريين، وهو يتحدث عن اللغة السياسية، ولا شك، باعتبار أنه يتساءل مباشرة بعد هذا التأكيد عن طبيعة إيديولوجية النخبة السياسية الجزائرية، سواء كانت في السلطة اليوم أم لا؟
هذه النخبة: ترى في المغرب أنه الإمبراطورية الشريفة التي تسعى إلى استرجاع كل أراضيها التي ضاعت منها، لهذا السبب أو ذاك، خلال القرون الأربعة الماضية، وهي القرون التي تطابق مجيء السلالة العلوية إلى الحكم ، بالتصدير الزمني للتاريخ.
العروي يضيف بأن المغرب لا يبذل أي مجهود لثنيهم عن هذا النوع من التفكير، وعندما نتكلم عن الدولة التاريخية والحدود الحقيقية والبيعة … إلخ يكفيهم أن يأخذوا هاته التصريحات الرسمية، وعرضها على حلفائهم الأفارقة والجنوب ـ أمريكيين وحتى العرب لتبرير تحليلهم«. وهو ينبه في الوقت نفسه إلى أن الأمر لا يتعلق » في هاته النقطة بالرد على حججهم، بل النظر لماذا يجدون آذانا صاغية لدى العديد من المخاطبين«..
وبعد هذا الاعتراض المنطقي ينطلق العروي في توضيح قاعدة التفكير عن النخبة الجزائرية، وهِنات تحليلها.
العروي المؤرخ يقول إن الجزائريين يعرفون أن »الجزائر التي ورثوها لا علاقة لها بالجزائر سنة 1830«، لأن الجزائر التي يتحدثون عنها» ولدت بالضبط في 1962 مع اتفاقيات ايفيان، ولو كان المستعمر بلدا آخر غير فرنسا لكانت الجزائر هي جنوب إفريقيا (سنعود إلى التشابك بين القوتين، في كتاب العروي، والذي يفسر في نظره الإنسجام والتحالف بينهما).« والجزائريون يعرفون بأن ثلاثة أرباع الجزائر الحالية لم تكن جزءا من الجزائر التركية وأن هاته الأراضي تم ضمها رويدا رويدا للمستعمرة الفرنسية. »
ويتساءل العروي عن الانتماء الجزائري وقتها؟
ليجيب:» بما أنها كانت مسكونة من طرف مسلمين و لم يكن بإمكانهم أن يظلوا بدون بيعة، إذ باسم من سيتم إلقاء خطبة الجمعة ؟« وعليه فإن »البيعة الإجبارية لا يمكن أن تكون إلا للعاهل والسلطان المسلم الأقرب إليهم، وهو ملك المغرب«!.
هل يحقّ للمغرب القول
إنّه قوّة إقليمية؟
هل يحقّ للمغرب أن يقول إنّه قوّة إقليمية؟… عن هذا السؤال يجيب عبد لله العروي الذي يعدّ أحد الكُتّاب والمُفكّرين الكبار، الذين يُؤخذ رأيهم بكامل العناية في أوساط النخبة والحُكم في المغرب، فيقول: “ليس نحن من عليه القول إنّنا أصبحنا، أم لا، قوّة إقليمية، بل الآخرون”. ولعلّ ملاحظة المؤرّخ صاحب “الأيديولوجيا العربية المعاصرة” (المركز الثقافي العربي، بيروت، 5991)، تنطلق من أنّ الدبلوماسية المغربية، في سياق انطلاقه من هذه المعاينة، انتقلت من دبلوماسية ذات طابع “سلبي” مُفرط في المُواضعات الرتيبة، كما تميّزت به “دبلوماسية الأنظمة الملكية التقليدانية” (tsilanoitidarT)، وانتقلت إلى دبلوماسية ذات نشاط محموم يقطع مع الرتابة والتحفّظ السابقَين. ولعلّ في هذا توصيف لمظاهر الحيوية والترافع الهجومي، بل التحرّر من عقد سابقة، تجعل الغربيين، أساساً، يرون فيها بعض النزوع نحو التعالي، إن لم نقل التفاخر المُستجدّ.
ويُفكّر العروي، كما يُفكّر آخرون، بأنّ مردّ هذا الموقف والتصرّف باعتباره قوةً إقليمية هو الموقف الأمريكي الجديد المساند لمغربية الصحراء، الذي جعل المغرب أكثر اطمئناناً على قضيته الوطنية، التي زكّت مواقفُ واشنطن موقعَه فيها على موائد القرار الدولي. ولكن، يبدو أنّ حصر التحوّل في الموقف الأمريكي وحده قراءة يتقاسمها المُؤرّخ والمرافق الحذر للقضايا المغربية، مع قوى سياسية، لا سيّما في الغرب الأوروبي، ولعلّه موقفٌ غير دقيق، أو على الأقلّ اختزالي، أيضاً، في تقدير التغيّر الذي حصل في ربع قرن من الزمن الدبلوماسي المغربي الجديد. فأولاً، بدأ الاختراق المغربي، والقطيعة مع موقف الانتظارية وتلقّي آثار الفعل الجيوستراتيجي والاكتفاء بالردّ الدفاعي عنها، قبل تاريخ إعلان موقف أمريكا الجديد. كما يظهر من خلال مواقف وقرارات وشراكات عديدة، باعتبار أنّ تنويع الشراكات والحصول على شركاء استراتيجيين حصل قبل الموقف الأمريكي بأربع سنوات على الأقلّ، ومن ذلك، التوجه إلى الصين وروسيا في2016 ، وخطاب الملك محمد السادس في الرياض في أبريل من العام نفسه بشأن التموقع داخل منظومة التعاون الخليجي العربي، وألحّ الملك على أنّ بلاده “ليست محمية لأيّ كان”، بمن فيهم الشركاء التقليديون، وتحديد العقيدة الدبلوماسية الجديدة المبنية على تنويع الشراكات الاستراتيجية، علاوة على تغيير العلاقات في الداخل الإفريقي، بالأساس، والعودة إلى الأسرة المُؤسّساتية (إفريقيا) في العام التالي لهذا التوجه (2017).
ثانياً، يكتب العروي أنّ “موقف بعض البلدان التي نشتكي منها يبرهن أنّ الاعتراف لم يحصل”، وهو في ذلك يشير بالأخصّ إلى فرنسا، التي ظلّت وما زالت لم ترتفع بموقفها إلى ما يطلبه المغرب. والحال أنّنا نجد أنّ الملك محمد السادس، الذي يعدّ مهندس الدبلوماسية، مجاله المحفوظ دستورياً، يَعي هذا الأمر نفسه عندما يقول، في إحدى خطبه (2021) بمناسبة ذكرى 20 غشت (1953)، “هناك من يقول إنّ المغرب يتعرّض لهذه الهجمات، بسبب تغيير توجهه السياسي والاستراتيجي، وطريقة تعامله مع بعض القضايا الدبلوماسية، في نفس الوقت”. ويرد في الإطار نفسه، بما يُشكّل تصحيحاً للنظرة الغربية، لا سيّما من سمّاهم هو نفسه بـ”قليل من الدول خاصّة الأوروبية، التي تعد للأسف من الشركاء التقليديين”، ويعتبر أنّ هذه التهمة غير صحيحة، فإذا كان المغرب قد تغيّر فعلاً، فذلك لم يتم كما يريدون “لأنّه لا يقبل أن يتم المسّ بمصالحه العليا. وفي الوقت نفسه، يحرص على إقامة علاقات قوية، بنّاءة ومتوازنة، خاصّة مع دول الجوار”. وهو ما يحيلنا، هنا، على فهمٍ يرى أنّ المغرب كان يدرك أنّ سقفاً زجاجياً موضوعاً فوق رأسه من طرف حلفائه التقليديين، حتّى تظلّ عواصمهم وقنواتهم الدبلوماسية هي الممر الإجباري والوحيد لعلاقاته الدولية، وبناء شراكاته الاستراتيجية، ووجوده في القارّة الأفريقية، ضمن دائرة مُحدّدة منذ القدم، وهو أمر لم يعد العهد الجديد يقبل به. وأصبح المغرب يسائل حلفاءه بخصوص الموقف من الصحراء، قبل بناء أيّ شراكات، لا سيّما الاقتصادية منها، في أفق وقف مناكفة المغرب في قضية الصحراء. وهو ما ينتهي إليه عبد الله العروي عندما يكتب في الفقرة نفسها (ص 26) أنّ “سيادة المغرب تكون موضع معارضة. وتصبح وسيلة للضغط على البلاد”، كما هو واقع للمغرب. وهو بذلك يلتقي موضوعياً مع الدبلوماسية الملكية النشيطة، عندما يدعو في خلاصاته إلى: “أن يكون الهدف منطقيا هو تغيير هذا الواقع بهذه الطريقة أو تلك، أي وقف المعارضة” لسيادة المغرب.
ثالثاً، من عناصر الحضور الإقليمي الوازن ما ميّز تحركات المغرب، من دون الإعلان عن ذلك، ومن دون صخب وجعجعة إعلامية، هو التوجّه نحو القوة المركزية في دول “بريكس” التي تجمع القوى الصاعدة والقوة الإقليمية المركزية، اليوم، في العالم، من خلال شراكات مُتعدّدة مع الصين والهند والبرازيل، وصلت إلى مجال التصنيع العسكري والإقلاع الاقتصادي، إضافة إلى أدوار أخرى، وهو معها يدعو إلى قيام نظام عالمي مُتعدّد الأقطاب.
يؤخذ في الاعتبار الانخراط الشخصي، الجسدي والرمزي، للملك محمّد السادس في عمليات الحراك الديبلوماسي. ويجب ألّا ننسى أنّ الملك، الذي يصفه كثيرون من الذين عملوا معه بشجاعة تفسر زيارته دولاً كانت تعادي المغرب (كوبا نموذجاً) أو ذات منسوب متقلب في الأمن (نيجيريا). ولعل الأبرز هو ما طرحه الباحث محمد الطوزي في حواره مع “جون أفريك” (مايو/ 2024) عندما تحدّث عن الأدوار المُحدّدة دستورياً للملك من جهة، والأدوار التي يلعبها العاهل المغربي بفعل ما تراكم من تاريخ وثقافة بين علاقات فردية وما صقله من أسلوب شخصي في تدبير علاقاته الدولية.
رابعاً، التفكير الذي يحدّد الأدوار هو الذي يأخذ بعين الاعتبار مجال التحرّك السياسي والاقتصادي والجيوستراتيجي، وهو، هنا، مجال قاري وإقليمي بامتياز، كما يتبين من خلال ثلاثة أبعاد على الأقلّ، لها انعاكسات إقليمية واضحة. المجال الإفريقي أو الجذور، فالقارّة الإفريقية موضوع طموحات إقليمية كبيرة، فيها تجاذب بين القوى الصاعدة والقوى التقليدية، ولعلّ المغرب انحاز إلى القوى الجديدة من دون قطيعة مؤلمة (باستثناء فرنسا) مع القوى التقليدية. وهناك المجال الأفرو ـ أطلسي، من خلال الدور الذي انطلق في لعبة في بناء مجموعة الدول 21 الأفرو ـ أطلسية، والتي تملّكت هذا البعد في أفقها الجيواسراتيجي منصةّ إقليميةّ موسّعة، تعمل إلى جانب وحدة إقليمية أفريقية، هي مجموعة الساحل، التي أدرجتها الرباط في حيويتها الإقليمية من خلال مبادرتها لتنظيم دول المنطقة في تشبيك تنموي وأمني جديد. وذلك، من خلال دعوة ملك المغرب، في 6 نوفمبر 2023 ، إلى بناء جسر برّي للدول المعنية نحو المحيط الأطلسي. وهو موقع لا يخدمه قارّياً فقط، بل يجعله رقماً لا يمكن تجاوزه في المعادلة المعاصرة، إزاء أوروبا، كما إزاء أمريكا بشقّيها الشمالي والجنوبي.( هذه المقالة حول القوة الإقليمية نشرت بالعربي الجديد يوم 11 يونيو 2024.
لا يمكن الاستمرار
في اليد الممدودة
في الجانب الآخر يعتبر العروي بأن الإصرار. على استمالة الجزائر بخصوص قضية الصحراء أمر غير منتج »لطالما فكر المغرب بأن وقف مناوءته في سيادته على الصحراء «يمر بالضرورة عبر اتفاق مع الجزائر،» والحال أن »هاته الأخيرة لها مصلحة في تمديد زمن النزاع حتى ولو كان مكلفا لها، «وعليه يقترح العروي البحث عن وسيلة أخرى: ومن هنا يقترح» قد يكون من المفيد، وأقول ربما من المفيد، تجاوز دائرة الجزائر court circuiter على أمل تحييدها. أما» إصرارنا على مسؤولية الجزائر فإننا نعمل، بدون أن نريد ذلك ربما، على خدمة سياسة الجيران، الذي يرددون باستمرار بألا شيء يمكن أن يتم في المنطقة بدونهم«، وحذر، »لعلنا أخطأنا الطريق بخصوص هاته النقطة«…
نفس العروي يأخذ مواقف براغماتية في العلاقة مع الجزائر (ص 28 و29) عندما يتفهم الإكراهات الجغرافية لهذ البلد مشددا على أن »التعارض بين البلدين والدولتين مكتوب في الجغرافيا، لكن لا يمكن أن يجد ترجمته بالضرورة في المواجهة المسلحة. وهنا تتدخل السياسة باعتبارها تعبيرا عن إرادة ورؤية قبل كل شيء«.
هاته السياسة البراغماتية والحقيقة المشدودة إلى الوقائع والوقائع وحدها، هي التي بمقدورها أن تقف في وجه الحرب وليست سياسة تستدعي العواطف والذكريات«..
ويستدعي العروي النموذج الأوروبي في بناء التكتل القاري في شمال المتوسط، بحيث أن الاتحاد الأوروبي لم يمح المعطيات الجغرافية بل عمل على تلبية الحاجيات التي تنجم عنها بوسائل أخرى غير الحرب، والتي دارت لعقود وسنوات بين الدولتين الكبريين فيها فرنسا وألمانيا.» وهنا يكمن تميز المغرب، ويكون الامتياز بجانب المغرب، لأنه قبل هذا الأفق منذ البداية، أما الجزائر فقد رفضته بشكل غريزي دائما».
يتبع
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 15/06/2024