«أجمل حكايات الفلكور المغربي» : في بلاد الصم: الإشارة خطابا للتواصل

 

على سبيل التقديم : إن وظيفة الحكاية الشعبية على اختلاف أنواعها تتمثل في كونها أخلاقية وسلوكية لما تحمله من حكم ونقد في موضوعاتها حيث الصراع الأبدي بين الخير والشر. والحكايات موضوع دراستي تثير قضايا عديدة والتي تتجلى من خلال سلوكيات أبطالها الدافعة إلى توليد فضول القارئ حيث المشاكل والضغوطات السائدة في مجتمعاتهم .

 

تتعرض قصة «في بلاد الصم» لقضية بالغة الأهمية والحساسية حيث العلاقات الإنسانية الشائكة ودرجة فهم الآخر واستيعابه والاستجابة له، مبرزا أن السمع هو الأساس الجوهري على مستوى التحصيل المقروء بين المخاطِب والمخاطَب، وأن الصمم يعد طامة كبرى على صاحبه في مجتمع لا يرحم. وإن الغوص في أعماق شخصيات الحكاية والتعرف على اهتماماتهم وحاجاتهم يتطلب الاهتمام بكل جوانبهم الاجتماعية والثقافية. القاص تبنى صيغا تصويرية تتعمد التعقيد والتشابك والتداخل وتتخطى كل صيغ الانسجام الظاهر والمباشر بسبب الصمم، حيث تحسيس القارئ بمستويات من التشتت والتفكيك والدخول في متاهات من الإحساس بالضياع والتيه والتوتر النفسي والفكري. فشخصيات الحكاية ترتبط بها أحداث ومواقف تؤثث مجتمعا سرديا قائما بذاته، يحاول من خلاله السارد تصوير الواقع وما تعج به الأنفس والعقول من هموم وأحزان ومشاغل ومشاكل وهواجس وتطلعات واحتجاجات ومواقف بسبب هذه الآفة الخطيرة، وهي عدم سماع بعضهم البعض والتي عانوا منها كثيرا حيث حولت حياتهم إلى ضبابية وتشويش. * تجري الاحداث بتلقائية وبوتيرة سريعة تضفي على الحكاية طابعا خاصا يجعل المتلقي يشعر وكأن الأحداث من نسج حقيقة واقعة المعيش.
* من نتائج هذا الوضع خلق المسافة بين ابراهيم والآخر حيث تنبني فيه رؤية ساخرة( استعصاء الفهم / الخيبة والانكسار)
* عمق التأثير في تفاصيل الحياة اليومية وفي طبيعة العلاقة العادية بين الإنسان / إبراهيم ونفسه / الآخر / الدنيا التي يعيش فيها ..
الحكاية تأخذ شكلا تصويريا وتخييليا في البداية لينتمي إلى التعبير المباشر والصريح في النهاية. * مقاربة الواقع : من خلال تقديم شخصيات انهزامية ومنكسرة ومستسلمة للمعاناة بسبب افة الصمم كمصير حتمي يحكم سيرورة حياتهم .* تقاسم الأشياء مع الأشخاص نفس الخاصيات: من خلال كونها جزء من حياة الشخصيات حيث بها يتم رصد مأساتها وواقعها.
* استحالة التواصل بين الشخصيات بسبب هذه الظاهرة المتفشية في المجتمع ( الصمم) حيث المعاناة تصبح قدرا مجهولا يقابله استسلام مأساوي * لفت انتباه القارئ إلى هذه الشخصيات وإثارة الاهتمام بها .
وللعودة إلى الحكاية التي لا تتخذ من الماضي منطلقا لها بل تتشكل مما هو حاضر أمامها وفي علاقة معه فالعنوان ( في بلاج الصمم) يكشف عن لعبة الحكاية ومرجعيتها حيث نوايا شخصياتها تعبر عنها المدلولات ( حصول اللا تواصل واللا تفاهم ) فالعنوان شكل للنص ودلالته وهيكل توزيعي لإيقاعه حيث يتحول إلى سؤال ذا طابع كلامي يخص علاقة الوهم بالحقيقة والخيال بالواقع فيتحول بذلك إلى حافز لمعرفة موضوع نص الحكاية الذي يتشكل منه وحوله أي العنوان والذي هو إشارة إلى هذا الفضاء الذي تنمسخ فيه الذات وتعيش صيرورة العلة جاعلا السرد نفسه خاضعا له . (في بلاد الصم) صورة للمكان والتي تشكل مدخلا مغريا لكل قراءة تهدف إلى البحث في بنية النص ككل ، فالشخوص والأحداث والمشاهد فيها تتموضع داخل طوبوغرافية نوعية ، وهذا العنوان هو إشارة ترسخ وعي القارئ بأهمية المكان حيث نسج علاقات بين السيد إبراهيم أحد أبطال الحكاية وباقي الشخصيات داخل أمكنة متنوعة منها المغلقة ومنها المفتوحة حيث إحساسه بعدم الألفة والطمأنينة والارتياح المادي والمعنوي داخل منزله فهذه زوجته التي تتحلى بالطمع والجشع ومساعدة أهلها عن طريق سرقة ماله ودفعه إلى عدم التساكن معها حيث اللامبالاة في كل ما يطلبه منها ، ومن جهة أخرى ابنته التي لا يهمها شيء سوى موافقة أبيها عن الارتباط بخطيبها الذي يمثل له ثقلا آخر لا يستطيع تحمله مما يدخله في تعاسة دائمة وأمها التي تحس أن زوجها لا يراعي مشاعرها رغم توسلاتها ورغبتها الملحة أن ينسى ماضيها ولا تجد إلا ابنتها التي تشتكي إليها سوء ظن أبيها بها لكن الأخرى تغدو سعيدة أن أباها وافق على رغبتها رغم معارضته الشديدة لهذا الارتباط .. وأما المكان المفتوح والمتمثل في الشارع / السوق فيتسم له بالعدوانية والتسلط حيث يتجلى ذلك بوضوح في مشاجرة بائعة البيض له ومثولهما أمام القاضي الذي بدوره لا يحل له مشكلة ضياع حماره مكتفيا بتقديم نصائح لهما ظانا أنها زوجته .. إذن ففي بلاد الصم هذا البلد الذي ليس كالبلدان الأخرى حيث إن حقيقته تحمل جوهر تراجيديا إنسانية / معاناة رمزية وواقعية ..
إن مأساة الشخصيات ومأزقها يجسد دراما ذهنية حيث الاضطراب في ترجمة الأشياء وفهمها الفهم الصحيح مما يجعلها( أي الشخصية ) ملتبسة يختلط عليها اليأس بالأمل والرغبة في الحياة بانشداد للموت الشيء الذي يجعل الحكاية تجربة في يقظة الضمير الثقافي وتجربة في عائلية الألم المشترك حيث الشخصيات لا أمل لها إلا تغيير وسيلة التواصل وذلك عبر الإشارة كخطاب للتواصل والتفاهم .


الكاتب : منير محقق

  

بتاريخ : 29/12/2021