«أحجية الصبا» منجز سردي جديد يغني المكتبة المغربية

للخطاب السردي سلطات يمارسها ومقاصد يهدف تحقيقها، فالكتابة السردية هي التي تكيف الواقع كما تشاء وليس العكس، حيث يمكن النظر إلى « أحجية الصبا» كسرد حكائي ينتمي إلى المدرسة الواقعية في السرد، خاصة أنها شديدة الالتصاق بتفاصيل الحياة البسيطة واليومية للهواريين في زمن مضى لترسم صورة متكاملة عن الواقع البدوي الهواري بقلم روائي يعتمد الوصف الدقيق للواقع المحلي، بأسلوب مباشر لا لبس فيه لتعريته وتسليط الضوء على ما فيه من عيوب وتناقضات وعقد، على اعتبار أن الرواية جنس سردي يقوم على التواصل بين المبدع والمتلقي وفق العرف الاجتماعي الواقعي.
ويمكن رصد مساحات من التداخل عبر مجموعة من الأنواع التي تمتصها الرواية مع حفاظها على حضورها النوعي رغم أنها غدت عابرة للأجناس الأدبية، ومستوعبة إياها في تجربة تجمع بين الرواية والسيرة الذاتية في تفاعل إيجابي يخدم النص من الداخل دون أن يمس وظيفته الإبداعية الروائية.
تشكل «أحجية الصبا» خطوة هامة في مجال الكتابة ضد التجنيس وذلك لأنها حاولت تقديم روايات متعددة داخل رواية واحدة، وكأن الكاتب «المصطفى أسدور» ينحو منحى جديدا في الكتابة السردية تختلف عن الطروحات السابقة التي كانت تعتمد على عدم خرق الحدود المناسبة بين الأجناس السردية الكبرى، والتي تجعل من الكاتب أسيرا لهذا النوع الأدبي دون ذاك لا حق له في مخالفته أو الخروج عن بوتقته.
والحق يقال إن «أحجية الصبا» سرد جديد ينتصر لتداخل الأجناس الأدبية من أجل إحداث المتعة الجمالية، وتشكيل النص السردي من منظور حداثي قادر على التعدد السردي من أجل الوصول إلى حالة جديدة من الكتابة السردية التي بإمكانها إعطاء أفضية تتعانق مع المخيال المغربي البدوي الهواري.
ترسم «أحجية الصبا» معالم التجديد الذي يسائل السيرورة الوجودية للإنسان الهواري، ويفتح التحولات المصاحبة له على أبعاد ودلالات متعددة، حيث ظل الكاتب يلتقط تفاصيل الوجود الإنساني الهواري المهمش. وإذا كان يعمق هذا التأثير والتداخل لإدراك الإنسان في تحققه الرمزي داخل النص بامتداداته المختلفة، والفاعل في الوجود البدوي الهواري، والمنفعل بما يجري فيه، ضمن أفق تعبيري وجمالي فتحه نص «أحجية الصبا» وفي أفق إنتاجي قد يسعف في معالجة نقدية خلاقة يتماهى فيها الخيال مع الحقيقة.
ليست رواية « أحجية الصبا « لصاحبها المصطفى أسدور نصا سرديا مفتوحا على أجناس سردية أخرى، بل حتى إنه يتخطى ذلك إلى مقاربة سوسيولوجية لظاهرة العنف المدرسي غداة الاستقلال، إنه بحق، نص يعكس تحولات عميقة عرفتها الممارسة التعليمية في تلك الفترة من الجامع/ الكتاب إلى المدرسة/ السكويلة بمفهومها المدني، ومن ثمة كشف الخلفيات الاجتماعية التي أنتجت مأسسة العنف في حجرات الدراسة بمدرسة عين صداق. فمن العنف الاجتماعي إلى العنف المدرسي ومن العنف داخل المدرسة إلى العنف المتولد عنها والموجه ضد أبنائها، حيث أصبح نوعا من التوحش الذي أطلق عنانه خلل التنشئة الاجتماعية والتربية، وهي الرؤية التي أضحت في قلب التمثل العفوي للعنف الذي يرتكز على تلك المساحة الفاصلة بين بعض المدرسين الذين تظهر في سلوكاتهم الهمجية والتلاميذ المغلوبين على أمرهم رغم تطبيعهم مع العنف والتعايش معه بل وقبوله وممارسته، ثم ظاهرة التنمر والهدر المدرسي والذي دائما ما تكون ضحيته الطفلات ضحايا زواج القاصرات.
وإذا توقفنا عند تعامل «المصطفى أسدور» مع البنيات السردية، نجد أنه تعامل في بنية الزمن مع جميع أنواعه وتمظهراته، بحيث يسير زمن الحكاية والخطاب جنبا إلى جنب، ليستمر شريط أحداث الرواية متسللا عبر تقنيتي الاستباق والاستشراف بنوعيها الداخلي والخارجي، كما استعان السارد بتقنيتي الخلاصة والمجمل حيث جاء الخطاب أكثر اختزالا للأحداث أحيانا عبر إشارات موجزة، أما في حالة تعطيل السرد أو إبطائه، فقد لجأ السارد إلى تقنيتي المشهد والوقفة والتي لاحظنا فيها تطابق زمن الملفوظ مع زمن التلفظ في النص، كما رصدنا تواتر الأحداث ودرجات ذلك، حيث اعتمد السارد تنويعات غنية لكل هذه التقنيات الزمنية وعلاقتها بالأحداث وتواترها داخل النص برمته، إذ استطاع أن يبدع عالما متخيلا له حقيقته السردية الخاصة به والتي كان لها الدور الكبير في تشخيص واقع بداية المدرسة المغربية وتحولاتها المتسارعة وتشخيص العنف الممارس داخلها بكل تجلياته.
اعتمد «المصطفى أسدور» في تحديده لعنصر المكان استراتيجية تجمع بين الأمكنة المفتوحة التي تبعث على الخوف (المدرسة/ المقبرة) والأمكنة المغلقة التي تبعث أحيانا على الراحة (البيوت/ الجامع) ليكشف من خلالها على ثنائية الانغلاق والانفتاح، وكذلك علاقة الصراع القائم بين الشخصيات داخل النص، ويمكن القول بأن الروائي قد استمد أمكنة « أحجية الصبا» من الهوية الهوارية البسيطة بكل دقائقها وما تصطنعه من تمظهرات تسهم في تشكيل وتعدد الرؤية السردية لدى الشخصيات الحكائية.
تنهل شخصيات «أحجية الصبا» من طبيعة المجتمع المغربي البدوي البسيط، حيث وظف الروائي تقنية الوصف التي ساعدت في كشف الجوانب الظاهرة والخفية للشخصيات الحكائية من خلال السارد أو من خلال استنباط القارئ /المتلقي لهذه المواصفات، حيث نلمس تنوعا في توظيف الشخصيات الحكائية التي طغى الصراع في ما بينها. ويمكن القول إن أي كشف لبنية الشخصيات في « أحجية الصبا» ينطلق من أبعاد تفصح عن طبيعة الانسجام بين نوازعها النفسية وظواهرها العاطفية وأدوارها العاملية، في قالب سردي متدرج عبر دفعات تتناسب وزمن/مكان الأحداث وما يمليه جوها العام في أبعاد مادية اجتماعية نفسية وأنثروبولوجية، كما لا يمكن إغفال اعتماد السارد على تقنية التناص في عدة مواضع داخل المتن السردي مستدعيا التناص الديني من خلال نصوص ذات حمولة دينية صرفة مسقطا إياها في النص الأصلي، كما وظف التناص التاريخي عبر استلهام حقبة الاستقلال، والتناص الشعبي عبر استلهام أمثال وحكم وعادات وتقاليد ضاربة في عمق الانتماء الهواري حتى العظم والدم واللحم.
ونحن نقف عند نهاية عملية القراءة الأولى لـ»أحجية الصبا» يجدر بنا الاعتراف بأن هذا النص السردي نص ثوري يتضح من خلال مواقف الكاتب الرافضة لظاهرة العنف المدرسي، ونظرته إلى العالم من خلال تشريح فترة معينة تتعلق ببدايات المدرسة المغربية، والتي تجسد الحياة الانفعالية التي تبتدئ بسمو الإنسان وتطوره وهو يواجه العقبات. إن أحجية الصبا تمنح فرصة للتفكير الجدي في المدرسة في القرى المغربية، شكلا ومضمونا…


الكاتب : إيمان الرازي

  

بتاريخ : 28/04/2023