قَبْل التّأويل :
تحتاج الشعرية العربية إلى التفاتة جديدة ومغايرة للمألوف النقدي، لأنها مازالت تكتنز وتذّخر أبعادا ودلالات لامحدودة، مما يكشف عن ثراها وغناها الجمالي والفني، ونظرا للقصور المعرفي بهذه الشعرية من لدن النقاد المعاصرين الذين تركوا القصيدة العربية المعاصرة تعيش عزلة قاتلة، و تشق وجودها نحو اليتم والإقامة في الخراب النقدي، مما يشكّل خطورة على كينونتها الإبداعية. من هذا الهاجس كانت لي وقفة مع تجربة الشاعر أحمد المجاطي لإعادة التأمل فيها، وفتح حوار مع أنساقها الثقافية والمعرفية.
(1) التأويل الشعري
ولا نهائية المعنى:
قراءة النص الشعري محفوفة بمنزلقات تأويلية قد تكون جناية في حقّه، خصوصا إذا كان التأويل مفرطا بعبارة أمبريطو إيكو، أكثر مما تضيء غابة دلالاته الممتدة في الاحتمال والإمكان، والقادرة على جعل القارئ واقعاً في فخاخ اللغة. هذه اللغة، القادمة بحمولاتها المفتوحة على المغامرة، عصية، متمرّدة وخارجة عن قوانين البناء والدلالة المعجمية، لكونها مُناصرة للمُحدَث في الرؤي والتصور والمنطلقات، ومؤمنة بالخرْق والعُدول عن البُنى الأفقية، بتشييد بُناها العمودية لتأسيس هوية النص الشعري باعتباره « أحد ممكنات اللغة» المجازية، مادام الشاعر يوظفها التوظيف الإبداليّ بعيدا عن المحاكاة كطريقة تقتل الخلْق والإبداع، ويضفي عليها خصوصياته الفردية. فإدراك العالَم لا يتمّ إلا بواسطة اللغة. هذه الأخيرة تجسّد بُنًى فكرية، وتعبّر عن أنساق حضارية و اجتماعية وعاداتية وثقافية، مما يُغْني الخطاب الشّعري، الذي يُبنى على وفق رؤية عميقة تشكل زاوية يتخذها الشاعر لصوغ الوجود بآليات التشكيل اللغوي والتركيبي . فالتركيب من تقديم وتأخير وحذف والتفات، وغيرها من التشكيلات اللغوية التي تلعب دورا مهما في إسباغ النص الشعري بالممكن المجازي والاستعاري لأن» جمالية النص تتولّد وتترتّب عن التجوّزات والعدول الملحوظة والتنافرات القائمة بين المعنى وشكله…إلا أن هذه التجوزات التي تُدعى مقومات جمالية أو محسّنات بلاغية أو انزياحات، لا يمكن أن تدرك إلا على أرضية التعبير غير الشّعريّ الذي نعتبره ترجمة حرفية لهذه العبارة الشعرية»(1) بهذا المعنى لا تغدو اللغة نقلا حرفيا للواقع،بقدر ما تجعل هذا الواقع ممزوجا بمتخيّل شعري منبعه معرفة شعرية ذات عمق رؤيوي، يحوّل هذا الواقع إلى كائن مجازي منفتح على تأويل أكثر اتساع وتوسّعا على المستوى الدلالي، من هنا فالقصيدة تولّد معناها من هذا الزخم الاستعاري الذي يخصّب المعنى ويثوّر المبنى، من خلال جعله أكثر انزياحا عن المألوف في الشّكل والدلالة. مما يعكس أن النظرية الشعرية تبقى قاصرة في الإحاطة بهذا النوع الإبداعي المنفلت والحامل لصيرورته في ذاته. لذا تبقى كل قراءة أو تأويل للشّعر مجرّد محاولة للاقتراب من غابته المتشابكة الأدغال، والغامضة المسارب والمسارات، والموهمة ببساطتها اللغوية القارئ بأنه له الاستطاعة للإلمام بهذا المجهول، الذي يبحث بوساطته الشاعر عن السكن في الوجود واللغة. أي أن الشاعر يروم، من خلال تجربته، تحقيق المعنى الوجودي أي كينونته التي تشكّل سرّا من أسرار هذا الوجود، وبالتالي فالشاعر ينطلق من اللغة والذاكرة لرسم هوية ما للنص الشعري، لتسجيل عبوره الاستعاري على أرض الإبداع الخلّاق.
في هذا السياق نعتقد أن النص الشعريّ المجاطي (نسبة إلى المجاطي) يمنحنا إمكانية المخاطرة لتجسير علاقة حوار هادئ ومثمر، منطلقه الأساس التأويل كآلية لها الاستطاعة لتقويل النص، والكشف عمّا يكتنزه من أبعاد جمالية وسمات فنية جعلته يتبوّأ مكانة في الشعرية العربية.
وعليه فكل قراءة لا تمتلك الوعي بالسياقات الاجتماعية والسياسية والثقافية، التي أنتجت النص المجاطي تعجز عن الحفْر في مغالق الخطاب الشعري لأن الإحاطة والفهم تقودان إلى ولوج القارة الشعرية للشاعر، هذه القارّة الموغلة في عوالمها التي تحتاج إلى الكشف والإضاءة، عوالم تقيم في التراث العربي ولكن بعين ناقدة ومدركة، وهذا لا يعني أن الشاعر يحاكي هذا التراث، وإنّما يمتصّه امتصاصا واعيا، بلور منه رؤيا شعرية مفتوحة على المدهش والغريب والفاتن، بل تنفتح على أفق شعري جديد سمَتُه الرّفض للمبنى وارتياده الشّكل المنبثق من بنية النص الشعري،
والشاعر أحمد المجاطي يعيد مشاكسة الوجود بطرح الأسئلة المثيرة للمعنى الوجودي والتي «تهدف إلى فتح دروب الحرية كفعل للاختيار والولوج في المجهول، وهو ما يمكن من خلق تجريب «إبداعي» يكشف المنحجب، ويعرّي بؤرة التوتر الحي الخالق «(2) الذي يكشف قدرة الذات على مجابهة تحديات الواقع، بصناعتها في أوعية جمالية وفنية تعتمد لغة تنحت شعريتها من المفارقة كطريقة تعبيرية في بناء خطاب شعريّ مفارق وموسوم بالمخالفة الشعرية.
هذه المشاكسة تشرَع ممكنات نصية زاخرة بجماليات معرفية تحفّز التفكير في مآلات الذات ورهانات الوجود اللانهائية، لكون المجاطي « استطاع ابتكار أسلوب جديد في التفكير والكتابة يجعل سننه مستعصية على التفكيك» (3) وابتداع شعرية تخرق بنية الجملة الشعرية، تثير الكثير من الاستغراب والغرابة، وهذا ما سنقف عليه في هذه القراءة التأويلية لتجربة الشاعر، نظرا لما يميّزها عن التجارب الأخرى من فرادة في السّبْك والصياغة والبعد الدلالي، ونعتقد أن هذه السمات الجمالية والمعنوية (من المعنى) أسهمت في تثوير شعرية أحمد المجاطي وبوّأتها مقاما لا غنى لنا عنه، للولوج إلى مجراته الشعرية ذات الأكوان الجمالية والإبداعية.
(2) التقاطعات المعرفية وتشابكاتها الجمالية:
كلّ تجربة شعرية تتولّد من موروثات إبداعية وفلسفية وثقافية،وتحقق كينونتها النّصيّة من قدرتها على امتصاص التراث بتشعباته المتنوعة، مما يغني الخطاب الشعري ويمنحه وزنه الخاص وقيمته الجمالية والفنية. فتصبح «الجملة الشعرية هنا ذات شحنة عالية تتكثف فيها الدلالة الإيحائية والرمزية،محلية إلى نوعية الرؤية الشعرية التي تسم الكون الشعري» (4) الذي يبدعه الشاعر باللغة والذاكرة، وهذا ما وقفنا عليه في ديوان «الفروسية» للشاعر أحمد المجاطي، الذي يفيض بكون شعريّ يؤسس وجوده الجمالي من نهج حوارية عميقة مع التراث والتاريخ والذاكرة الجمعية والذات كبؤرة تجسّد معالم القلق الشعري الذي يسترفد معناه من هذا الانفتاح على أكوان وينابيع تطعّم الخطاب بدلالات لا حدّ لها. وعندما يستثمر الشاعر هذه الموروثات لا يوظفها بطريقة يغيب فيها العمق الرؤيوي، بقدر ما يحوّلها إلى طاقة متجدّدة تشحن الخطاب الشعري وتبصمه بسمات الابتكار والخروج عن سلطة المواضعات الأسلوبية السارية المفعول في بنية النص الشعري العربي، مما يضفي عليه (الخطاب) طابع التجديد والمغايرة، ويكشف عن الينابيع المعرفية التي يستمد منها وجوده الشعري، الأمر الذي يبرز»أن الأسلوب الشعري يمتاز بإثارة المتعة والدهشة» ( محمد الولي ص240)، هذه الدهشة نلمسها في قول المجاطي : ( سحائبٌ من نشوة الغُبار/ في السّاحه/ تصنع وجه النّجم / أو تصوغ أشباحا/ من خبَبٍ بطيءْ/ والخيل تعلك المدى/ تدكّ ألواحه/ بالشدّ والمجدول والكُمّيه/ والكفّ في معارف الجواد/ والوجه الذي لاح / من خَلَل الزحام/ وعُروة اللّجامْ/ للرّيح مرميّه،/ وتنتشي زغروده/ تهلّ أو تضيء/ ويستفيقُ الثّلج في أحشاء/ باروده …) نعثر عنّا في معمعان خطاب شعري جوهره أسلوب استعاريّ تمّ توظيفه لتشكيل صور شعرية ملفتة وموغلة في مجازيتها لموروث شعبيّ ضارب في الذاكرة الجمعية، وقد تمكّن المجاطي من ابتداعه شعريا، بوساطة لغة خارقة للمألوف البنائي للجملة الشعرية، بعبارة أخرى إن المجاطي يقدّم للقارئ معرفة بالموروث الشعبي ويتعلّق الأمر بأجواء «التبوريدة» ذلك أنه كان بارعا في صياغتها صوغا جماليا فنيا، حاول الشاعر امتصاصه وعجنه ليقدمه في لوحة استعارية تؤثث فضاء النص بتلوينات مجازية. فالسحائب تبدع النجوم والأشباح والزغاريد جذلى والخيول تعلك المدى والثلج يسيقظ في أحشاء باروده هي تلوينات أسلوبية تكشف عن عمق التجربة وأصالتها، هكذا يبلغ الشعر مبتغاه ويجعل الواقع موضوعا صالحا للشعر، شريطة أن يمتلك الشاعر إمكاناته المعرفية والثقافية، فقد برِع في رسم صورة واقعية بتشكيل استعاري بديع خلق أثره الجمالي، ومن ثمّة فإن «الجمال الشعري يكمن في ما تقدّمه لك القصيدة من غرابة» (5) تهزّ النفوس وتربك البصر وتحيّر البصيرة، وتخلُف عالما شعريا يؤسس خطابا يحفر في الذاكرة الطقوسية والعاداتية بلغة التصوير المشهدي الذي اعتمده الشاعر في بناء قصيدته ( السقوط). بل إن المجاطي أبدع علاقات جديدة على مستوى اللغة في ترابط وثيق مع الواقع المُدرَك والمُسْتَغوَر بتجربة ورؤية الشاعر إلى الأشياء والكائنات، إلى الذات والوجود. وإذا كان التاريخ خطاب نفعي همه الانشغال بتتبع الوقائع، فإن الشعر خطاب جمالي يقصي المرجعية ويحتفي بالشعرية، لكن المجاطي يتيح للتاريخ، في ديوانه، متّسعاً جليا، شارِعاً مدخراته المكتنزة لأحداث تاريخية تحوّلت في الخطاب الشعري إلى رموز تاريخية ذات بعد شعري ، هكذا تحضر أحداث 1965بقرانها بدار لقمان كإحالة ضمنية أن الماضي نفسه الحاضر والمستقبل، فالمكان ثابت جامد دلالة على أن التغيير والثورة ضد واقع موسوم بالجفاف والموت وزمن مدلهم كناية على عالم الجَور والاستبداد، لكن الشاعر عن طريق الرمز والإشارة استطاع أن يثوّر التاريخ بإضفاء الطابع الجمالي.ويكشف عن حال التوتر القائمة بين المكان والزمان، وهذا إحالة على الصراع القائم بين ما تحلم به الذات وما هو قائم، لأن المحلوم به بعيد المنال يقول: ( ويكذب النّجم وتبقى الرؤى/ مبحرة في ليل تسآلها/ ويُسفر الصّبح ولمّا تزل/ أطلال لقمان على حالها/ فأحمل الكفّ أعيد جع أنفي/ أصلب الرمح على الجدار/ أنسلّ خلف لحيتي/ أخفي فلول السّهم في الغبار/ فأبصر السّماء/ أسرابا من البُغات…) فالرؤية الكارثية جليّة في الخطاب الشعري المجاطي، لأن الخلفيات المعرفية المنطلَق منها تؤسس لهذه الرؤية، خصوصا وأن الشاعر يرفض واقعا مشلولا ومريضا بأمراض اجتماعية وثقافية وسياسية، وبالتالي فالسياق العام المؤطّر لهذه الرؤية موسوم بهيمنة زمن الليل وتغييب قسري لمصادر الضوء (كذب النجم، الرؤى غارقة في أزمنة يطغى عليها الجمود والسكونية، المكان باق على حاله كناية على العقم … ) كل هذا صيّر الذات إلى مصير كارثي ينغل بالسقوط والهزيمة والظلم، غير أن الشاعر بلغة شعرية أسبغ خطابه بجماليات معرفية زادت من وهج التجربة وإشعاعاتها الفنية . ولابد من التأكيد أن شعرية المكان في الديوان ( القدس، الدار البيضاء، طنجة، دمشق، مراكش، سبتة، الخمّارة، دار لقمان…) تتجلى في الصفات الجمالية والتشكيلات التصويرية التي قدّم بها هذه الأمكنة، ذات الدلالة الكارثية لكنها تجوهر شعريتها التي « تعدّ تقنية فنية في تصوير الواقع والمحسوس في التجربة الإنسانية، فإنها تسهم بحق في تشكيل بنيات نسقية ذات أبعاد دلالية لانهائية عبر وظيفة الخيال الشعري» (7) . كما يزخر الخطاب الشعري بذخيرة تراثية تزيده أصالة من حيث فتح قنوات الإصغاء والإنصات والتحاور معه، لكن تشكيله داخل بنية النص الشعري تكشف براعة الشاعر المجاطي في الكشف عن القدرة الهائلة التي يمتلكها في تذويب التراث القرآني والشعري والمثلي ( نسبة إلى المثَل) في نسيج القصيدة خالقا نَفَساً وروحا جديدين، وسنكتفي بشاهد واحد يبرز عظمة الشاعر يقول: ( كيف ارتمت حوافر الجواد، دون أن أرى التفاحة/ في ضحكة الثعبان ) فقد تمكّن الشاعر من صهر الآية الكريمة التي يقول فيها الله تعالى ( بدَتْ سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنّة) ( الأعراف الآية 22) بشكل ينماز برمزية تطفح بشعرية باذخة في دلالاتها. وهذا التوظيف الجمالي والتفاعل القائم بين الذخائر المعرفية بتشكيل جمالي يوضح قيم الشعر في الوجود، ذلك أن قيمة الشعر تكمن في كونه الوعاء الذي يصهر فيه التراث والأدب والتاريخ والسيرة الذاتية والثقافة بتجلياتها المتنوعة، من أجل تشكيل عوالم شعرية تطرح السؤال المعرفي على المتلقي.
على سبيل التأويل:
هكذا تظل تجربة الشاعر أحمد المجاطي قابلة لتأويلات عديدة نظرا لما تحبل به من جماليات تجعل المعنى لا نهائيا، والحفْر في طبقاتها الشعرية قائمة الذات، ولايمكن التوقف إلا عند تلك التخوم الشعرية الفاصلة بين الحقيقة والمجاز، بين الواقع والخيال، وهذه ميزة من ميزات شعرية المجاطي.
المصادر والمراجع:
* هذا جزء من دراسة مطولة في تجربة الشاعر أحمد المجاطي.
1- محمد الولي: الخطابة والحجاج بين أفلاطو وأرسطو وبيرلمان،فالية للطباعة والنشر والتوزيع،بني ملال،ط1،2020 ص 213/214.
2- عبد العزيز بومسهولي: الشعر والتأويل : قراءة في شعر أدونيس، أفريقيا الشرق، 1998، ص 7.
3- الشعر والفلسفة : رؤى متقاطعى، كتاب جماعي إعداد وتقديم حسن مخافي، أفريقيا الشرق، المغرب، 2021، ص37.
4- عبد العزيز البومسهولي: الشعر والتأويل ، مرجع سابق،ص 19.
5- سعاد كموني: إغواء التأويل واستدراج النص الشعري بالتحليل اللغوي» المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب،ط1، 2011، ص29. يوسف عليمات: جماليات التحليل الثقافي: الشعر الجاهلي نموذجا،المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وزارة الثقافة، عمان، الأردن،ط1، 2004، ص 35/36.