أحمد المديني في «باريس أبدا» العلاقة بين الذات والمكان

 

لا ريب في أن كتابة السيرة الذاتية تنطوي في بعض الأحيان، إن لم يكن فيها كلها، على يوميات الكاتب، ومذكراته، وذلك شيءٌ يتوافر فيه الكثير مما يحظى باهتمامات من لدن فئات شتى من مؤرخين، ومن جغرافيين، ومن خبراء بيئة، وعلماء إجتماع، ومثقفين، وأدباء مبدعين شعرا، ونثرا، وبحثا في الأدب، والفنون. ولأحمد المديني – الكاتب المغربي – ولعٌ، وشغفٌ، إن لم نقل هوَسًا، بكتابة السيرة، ولاسيما إذا تخللتها بعض الرحلات، والمشاهدات، في بلدان العالم المختلف، أو المؤتلف.
وفي كتابه الأخير “باريس أبدا” (منشورات المتوسط ، 2022) يذكرنا بكتابيه السابقين “نصيبي من باريس”(2015) الذي يروي فيه ما كان من شأن الارتحال بهدف الدراسة، وتلقي العلم في الجامعات الفرنسية لا سيما السوربون. وما عرفه في تلك الأثناء من مكتبات، وما زاره من متاحف، وما عقده فيها من صلات، وعلاقات وطيدة ببعض النابهين من عرب ومن غربيين. أمثال آلان روب غرييه، وجاك لينهارت أحد تلامذة لوسيان غولدمان صاحب المذهب البنيوي التكويني .. والإلهِ الخفيّ، وعالم راسين، والبورت رويال، والبروفسور جيرار جنيت أحد كبار دارسي السيميائيات السردية، والمنظرين للسرد ولخطاب الحكاية. وغيرهما من كبار المثقفين الفرنسيين. ومن العرب عرف كثيرين شعراءَ، وكتابا، نشأت بينه وبينهم ألفة متصلة، وعشرة مؤتلفة، وهذا يمنحه صفة الشاهد الذي يؤتى (في بيته يؤتى الحكم) لأخذ الشهادة منه عن هذا الكاتب، أو ذاك، أمثال عبد الرحمن منيف، والباهي محمد، الذي ألف عبد الرحمن منيف كتابه الشيّق، الممْتع، عنه ونشر بعنوان (عُرْوةُ الزمان الباهي) ومنهم محمد آيت قدور- أحد السياسيين المنشقين على الحسن الثاني سنة 1971 – والمفكر الفيلسوف محمد عابد الجابري، مؤلف الخطاب العربي المعاصر، وبنية العقل العربي، وشاكر نوري، وعبد الواحد عوزري، وعبد الرحيم الجلدي، وجمال الدين بن الشيخ مؤلف كتاب الشعرية العربية، وآخرين…
و”في فتن كاتب عربي في باريس” (2019) استعاد الكثير مما فاته ذكره في الكتاب الأول، وأضاف إليه الكثير.
بيد أنّ هذا الكتاب، وهو الثالثُ عن مدينة الذهب الإبريز، على رأي رفاعة الطهطاوي (1801- 1873)، يروي الكثير من يومياته التي سماها يوميات الضفة اليسرى. وهي يوميات تغطي، بما تذكره من مواقف، أيامًا من العام 2019 وأخرى من العام 2020 ومثلما يذكر في مقدمته القصيرة للكتاب بخلاف كتبه الأخرى يمثل” باريس أبدًا “ عصارة تجاربه الذاتية، وسجلا حافلا بالكثير الجمّ من سيرة صاحبه، أو من قصة حياته بقلمه على رأي فيليب هامون، على الرغم من أن قالبَ اليوميات ليس يسيرا، ولا سيما إذا كان لكاتب يتوخى المزج بين العامّ، أي ما هو موضوعي، والخاصّ أي ما هو شخصي. إذ من العسير على الذات أن تَعْرف ذاتها، أو تُعرّف الآخرين بها من خلال ما هو خارجي، وغير ذاتي.
وإذا كان في كتابيه المتقدِّمين عن مدينة “ النور “ قد نوّه لما يتصف به خريف باريس من سحر، وبهاء، لا يدانيه الربيع، فإنه في هذا الكتاب، أي في يوميات “ باريس أبدًا “ يؤلمه أن الخريف غاب عن هذه المذكرات. فكأنّ عضوا بُتر منه. إذ تُعدّ فصولُ السنة عنده فصلا واحدا، متصلا، متكاملا، وهي، وإن كان المرءُ يعيشها بامتلاء، إلا أنه لا يفطن إليها إلا عندما تغيب فجأة، كأن تهجُم الأمطار مبكرًا فتكتسح في غارة كغارات المغول، أو التتار، خريف باريس، فلا تبقي منه شيئا، ولا تذَر.
ولا يفتأ المديني، كعادته في كتب السيرة الأخرى، يثبُ من لحظة لأخرى، ويقفز من مكان لآخرَ قفزًا، مذكرا بكاتب الرواية الذي لا يلتزم بسرد الوقائع وفقا لدورة عقارب الساعة. فها هو ذا في أثناء الحديث عن بدْء العام الدراسي في باريس الذي يبدأ عادة في 2 سبتمبر – أيلول من كل عام، إذا به يترك باريس، ويترك الضفة اليسرى من السين، مسلطا الضوء على(بَرْشيد) القريبة من الدار البيضاء، وعلى بعد أمتار من باب إحدى المدارس ثمة طفلٌ(هو المؤلف) يأخذ أبوه بيده، ويقوده مرتدياً لباسًا جديدا ليسلّمه لرجلٍ طويل القامة، ويقوده هذا إلى غرفة مستطيلة هي غرفة الصف التي سيقضي فيها، لا سحابة نهاره ذلك اليوم، بل سيقضي فيها سنوات عمره الأولى. يتعلَّم، ويلهو، ويقفز، ويهرب إلى الحقول المجاورة. وعلى هذا النحو يسترسل المديني الكاتب في استعادة أيامه في (السكويلة) على الرغم مما بين (برشيد) وباريس من فروق.
أما ما يدعوه للاسترسال في هذه التداعيات، فهو رؤية الأطفال فرحين بذهابهم إلى المدارس في اليوم الأول من السنة. وهذا شعورٌ عارمٌ قد لا يغيبُ الإحساس به عن أيّ منا. فلكلٍّ منا يومه الأول في الروضة أو الابتدائية أو(السكويلة). لكن المديني لا يفتأ يتنقل بنا في هذه اليوميات من مكان لآخر، مع أنه مستقرٌ في مكانه الأثير على كثب من الضفة اليسرى لنهر السين.
في الأثناء يستقبل زائرًا قادمًا من المغرب، وهذا الزائر يُذكّـرُه بالأيام الأولى له في باريس. أي قبل 40 عاما من تاريخ كتابة هذه اليوميات عندما تأجَّر بيتا، واتخذه مستقرا إلى حين. فوصول هذا الصديق المنبهر سلفا بعاصمة النور، قبل أن يرَ شيئا منها، أعاد إليه الشوق القديم لرؤية مدينة عظيمة تطأ قدماه أرصفتها، وشوارعها، للمرة الأولى. ذلك لأن هذا الزائر المنْبَهر بما سمع يريد منه أن يؤدي دور بياتريس في الكوميديا الإلهية لدانتي (1265- 1321). و لا مناص من تلبية رغبات صديقه الرباطي هذا، فيعيد – وإياه – اكتشاف باريس من جديد.
وفي الأثناء يذكـرُ لنا أنه في هذه المكتبة اعتاد اللقاء بعبد الرحمن منيف(1933- 2004)- الروائي الكبير- الذي توفي في دمشق عام2004 وفي تلك المقهى تعرف بالباهي محمد حرمة (1930- 1996) أحد المثقفين المغاربة الموريتانيين الذين اختاروا باريس منفىً لهم بسبب مضايقة الذين استباحوا البلدان، وطغوا في الأوطان، وأحد الأشخاص الذين التقى بهم ابن زروال في الجزائر مثلما جاء في رواية “ طائر الغريب “ للمؤلف. وفي ذلك المطعم لقي الشاعر محمود درويش(1941- 2008) في مواعيد كثيرة. وأيا ما يكن الأمر، فإن قدوم هذا الرباطي، ومغادرته باريس، أتاح للقارئ، لا للمديني وحده، الاطلاع على إضافاتٍ كان يمكن أن تذكر، أو ذُكرت، في كتابه السابق “ فتن كاتب عربي في باريس “.
واللافت للنظر ما يذكره المديني في واحدة من يومياته عن منشور وقع نظره عليه في أيلول من العام 2019 يقول فيه صاحبه منتقدًا من كتبوا كتباً عن باريس، بمن فيهم مؤلف الكتاب “ فتن كاتب عربي في باريس “ إنّ باريس مدينة عظيمة حقا، وجديرة بالكتابة عنها، غير أن الذين أقاموا فيها، وكتبوا، كتبوا عن ذواتهم أكثر مما كتبوا عن باريس. وهذا النقد ينسحب على كتاب المديني، وغيره. أما هو، صاحب المنشور المومأ إليه، فيدَّعي أنه دبَّج ديوانا عن باريس لم يكن فيه ذاتيًا كغيره، على الرغم من أنه لم يُقمْ فيها سوى ثلاثٍ من السنين.
على أن المديني يبدي، بشيءٍ من الصبر، عدم الارتياح لهذا الكاتب الذي يدّعي الشعر، فشعرهُ الذي يزعم بُعده عن الذات، وخلوّه من الشخصي، لا يُعتدّ به في المتن الأدبي الموضوع عن هذا المدينة مطلقا. عدا عن ذلك: كيف يُتصور أنْ يكتب كاتبٌ أديبٌ تقوده ذاته في مسالك الحياة، وتفتح له خزائن المدن، وما تنطوي عليه من أسْرارٍ ودفائن، أن يكتب عنها بعيدًا عن الذات، وهو لا يرى الأشياء، ولا الوجوه، إلا بعين الذات التي تفترقُ عن ذوات الآخرين. ألم تكن أشعار بودلير(1821 – 1867) في باريس شعرًا ذاتيا؟ وهل كانت البؤساء لفيكتور هيجو(1802- 1885) إلا رؤية ذاتية لصاحب أحدب نوتردام، وكرومويل، وأسطورة القرون؟ ألم يكتب الأمريكي إرنست هيمنغوي(1899- 1961) عن باريس ما كتب، وهو تحت تأثير الانبهار الذاتي، جاعلا من أيامه فيها عيدًا. هذا هو ديدَنُ الأدباء، وهذه طباعُهم، حين يكتبون ما يعتقدون أنه تعبيرٌ بالكلمة عن ذواتهم، وحلولها، في المكان.
ولا يُعقلُ، في رأي المديني، أنْ يكتب عاشقٌ عن باريس التي يحبّ كتابة باردة، خالية من دفء المحبة، وحرارة العشق. لهذا نجدُه يوم الإعلان عن رحيل الرئيس جاك شيراك ( 1932- 2019 ) يشعر بالحزن لأن المدينة التي يهوى هي الأخرى تشعُر بالحزن. وهنا نتوقع أن يلمّ الكاتب المديني – على الأقل – بصورةٍ واقعيَّة لهذا الحدث المأسوي. يقولُ في وداع شيراك في ذلك اليوم الحزين ما يأتي: “ أنا أيضا أحببْتُ فيه هذا. والتقيتُ به في مناسباتٍ عابرة. أكثرها لطفًا في مطعم كنتُ أتردَّد إليه. متخصّص بلحمة الراس. وشيراك كان محباً لهذا. وهاوياً كبيرًا للجِعَة. ولكلِّ طيبات الحياة. وحباه الله وجها مليحًا. وقامة فارعة. وابتسامَة حديقة. وروحًا متوقدة. هكذا يكون الرؤساءُ وإلا فدعْ “.
ومثلما عوّدنا المديني في سِيَره، لا يترك صغيرة، ولا كبيرة، في يومياته، ومشاهداته، إلا ويعطيها ما تستحقه من العناية القصوى، والاهتمام الأكبر، الذي يتجلى في ما يرويه من تفاصيل، وما يعقبُ ذلك من تعليقٍ، وتحليل. لذا يجد القارئ في هذه اليوميات الكثير الجمّ من الفائدة، والمتعة، فهكذا تكون السيرة، وإلا فلا.

* ناقد وباحث أستاذ كرسي الأدب الحديث في الجامعة الأردنية


الكاتب : إبراهيم خليل *

  

بتاريخ : 04/11/2022