أحمد المديني يقرأ المدوّنة السردية الحديثة بمنظار الذائقة

«في حداثة الرواية العربية / قراءة الذائقة” (دار الأمان – الرباط) هي الحلقة الثامنة والستون في سلسلة مؤلفات الأكاديمي والروائي والناقد المغربي أحمد المديني العامة التي تتوزع على الرواية والقصة القصيرة والكتابة الرحلية والسيرة الأدبية والشعر والدراسة الجامعية والبحث النقدي. وهي الحلقة التاسعة عشرة في سلسلة دراساته الجامعية وبحوثه النقدية الخاصة. على أن التسلسل لا يقتصر على الشكل، بل يتعداه إلى المضمون بدليل قول المؤلف: “ وسيجد القارئ في كتابي النقدي الجديد هذا امتداداً لقراءات سابقة انصبّت على تحولات الجنس الأدبي السردي عربياًّ في سياقه الموضوعي الكبير، من جهة، ومن منظور ومفاهيم ومنهجيات تحليل تتوخى أدبية النصوص، من جهة ثانية”.

 

 

الحداثة والذائقة

في عتبة العنوان، تستوقفنا في الأصلي منه كلمة “حداثة”، وفي الفرعي كلمة “الذائقة”، وهما مفتاحان مناسبان للقراءة. أمّا الحداثة المقصودة فهي تلك المتعلقة بالرواية العربية الحديثة التي يعرّفها الكاتب بأنها «سرد محكم له نواميس تحديثه تختلف حتماً عن الكلاسيكية إلا أنها موجودة ومتوارية ومخاتلة ولا مستقرة، باعتبار التجديد صيرورة لا نظاماً ثابتاً» (ص 112). وأمّا الذائقة فهي «الحاسة السادسة للناقد الأدبي، بافتقادها هو واحد لا أكثر من بين عشرات شرّاح يتناوبون على قراءة النص»، على حد تعريفه (ص 36). وبالانطلاق من هذين التعريفين، يشير المفتاح الأول إلى مادة الدراسة الأولية وهي الرواية العربية الحديثة في عدد من تمثّلاتها، ويشير المفتاح الثاني إلى أداة الدراسة وهي الذائقة، بالمعنى الثقافي للكلمة، وهي كامنة في أي قراءة للنص ومرتبطة بمعايير وقواعد نقدية.

الدراسة والمقالة

في متن الكتاب، يشتمل، في الشكل، على مقدمة طويلة واثنين وعشرين نصاًّ نقدياًّ، تتوزّع على ثلاثة محاور، هي قراءات تحليلية وقراءات مونوغرافية وقضايا أدبية، بعدد عشرة نصوص للأول، وخمسة نصوص للثاني، وسبعة نصوص للثالث. ويتراوح طول النص الواحد بين خمس صفحات، في الحد الأدنى، كما نجد في مقالته عن رواية “السيرة العطرة للزعيم” للروائي التونسي شكري المبخوت، وخمسين صفحة في الحد الأقصى، كما في دراسته عن رواية “فاكهة الغربان” للروائي اليمني أحمد زين، ما يشي بمادة نقدية متنوّعة في الشكل سلفت الإشارة إليها أعلاه، وفي المضمون ممّا هو قيد الإشارة إليه أدناه.

مختبر نقدي

يشكل الكتاب مختبراً نقدياًّ يعالج فيه الكاتب مجموعة من النصوص السردية العربية الحديثة، بالمعنيين الزمني والفني، تمثّل حقول اختبار، يقاربها بالذائقة، بالمعنى الاصطلاحي للكلمة، باعتبارها أداة نقدية تعادل مصطلح “الصناعة” في النقد الأدبي القديم ومصطلح “الملكة” عند ابن خلدون. على أن طريقة المعالجة ليست هي ذاتها في النصوص المختلفة؛ ففي حين يعتمد تقنية “الدراسة” التي قد تبلغ عشرات الصفحات في حوالى نصف النصوص، نراه يستخدم تقنية “المقالة” التي لا تتعدى بضع صفحات في حوالي ربعها، ويتناول المدونة السردية في النصوص الأخرى في سياق قضايا أدبية معيّنة. وهذه التجارب المختلفة تتمخّض عن: مقدمات نظرية، وفرضيات نقدية، وخلفيات تاريخية، وتطبيقات عملية، وملاحظات منهجية، وحكايات ملخّصة، وشخصيات محلّلة، وخلاصات مستنتجة. وتعكس ثقافة نقدية واسعة، وإلماماً كبيراً بمناهج النقد الحديثة، وخبرة واضحة في الكتابتين السردية والنقدية. وهو ما نشير إلى بعض تمظهراته في مقدمة الكتاب ومحاوره الثلاثة.

سيرة أدبية

في المقدمة الطويلة، نقع على جوانب من سيرة المديني الأدبية، من جهة، ومجموعة من الملاحظات النقدية التي تتناول المدونة السردية العربية الحديثة، من جهة ثانية. ففي الجهة الأولى، تشير المقدمة إلى: نشأته في أسرة مثقفة بمعايير زمانها، تعلّقه بالقراءة منذ نعومة أظفاره، مزاوجته بين الكتابة الإبداعية القصصية والبحث الأكاديمي، نزوعه المبكّر نحو التمرّد في النص والحياة، ممارسة التجريب في القص والنقد، تمحور بحوثه الجامعية حول القصة القصيرة والرواية المغربيّتين، وغيرها من العناصر التي صقلت شخصيته الأدبية والنقدية. وفي الجهة الثانية، يخلص المديني إلى مجموعة ملاحظات حول المدونة السردية العربية الحديثة والمدوّنة النقدية المواكبة لها، من قبيل: قطيعة المدونة السردية مع الماضي السردي العربي وعدم تناسبها مع السيرورة التاريخية التي اقترنت بها، طغيان النقل والتقليد والانتقائية على المدوّنتين السردية والنقدية، وجود فجوة بين أدب حديث ومحيط قديم، حرق المراحل في اقتباس الأساليب الفنية الحديثة، سواد المنطق التجريبي في المدوّنتين، تعدّد الحارثين في حقل الكتابة السردية التخييلية، تعدّد الحداثات، وغيرها من الملاحظات التي تنطوي على إمعان النظر ودقة الملاحظة. وتستبطن ميلاً إلى المدوّنة الكلاسيكية السردية، وتعاطفاً حذراً مع المدونة السردية الحديثة.

قراءات تحليلية

بالانتقال من المقدِّمة إلى المقدَّم من دراسات ومقالات وقضايا، تتعدّد تمظهرات “قراءة الذائقة” التي يدعو إليها المؤلف ويطبّقها في كتابه، وتختلف من نص إلى آخر. وإذا كان المقام لا يتّسع لعرض هذه التمظهرات، فحسبُنا الإشارة إلى تَمَظْهُرٍ واحد في كل محور، وفي الواحد ما يحيل إلى الكثرة؛ ففي إطار القراءات التحليلية، يتناول المديني بالدرس والتحليل رواية “فاكهة الغربان” للروائي اليمني أحمد زين، ويُفرد لها الحيّز الأكبر في كتابه، ويخلص بنتيجة الدراسة إلى ما يتعلق بالروائي من جهة، وما يتعلق بالرواية من جهة ثانية. فيشير، على المستوى الأول، إلى تعدّد مصادر الروائي الفنية، وخصوصية تجربته الروائية، وتموضع سرده في مدوّنة الرواية العربية المجدّدة. ويشير، على المستوى الثاني، إلى: صعوبة الرواية وممانعتها في تسليم نفسها للقارئ، انتمائها للمدوّنة الروائية الحديثة، معاصرة مرجعها التاريخي، مركزية المكان في أحداثها، غلبة التجريد عليها، عرض الشخصيات وما تستبطنه من قيم، تحكّم السارد بضمائره المختلفة بمنظومة السرد، تعدّد القصص بين المعلنة والمضمرة، اعتماد تقنيتي الدمى المتداخلة والمرايا المتقابلة، تعدّد فضاءاتها وتضافرها لتجسيد تيمة العطب المحورية فيها، وغيرها. وغنيٌّ عن التعبير أن هذه الخلاصات تتوزع على هوية الرواية الفنية، حكايتها، وخطابها. ولا تفوت الدارس المحلّل الإشارة إلى منهجه في القراءة والتيارات الروائية الحديثة ومواصفات الرواية الحديثة في استطرادات وجمل اعتراضية لها وظائفها العضوية في عملية التحليل.

قراءات مونوغرافية

في إطار القراءات المونوغرافية، يتناول المديني بالقراءة رواية “رامبو الحبشي” للروائي الأيريتري حجي جابر التي تتمحور حول الشاعر الفرنسي أرثور رامبو (1854- 1890) في مرحلته الحبشية، فيحدّد هوية العمل منطلقاً من منطلقيِ: الكتابة على الكتابة، وهو ما يعرف بـ”التطريس”، واستثمار الوقائع التاريخية في إطار تخييلي روائي. ويرسم الصورة البانورامية الكبرى للحكاية الرامبوية في الحبشة والصور الصغرى الرافدة لها. ويخلص بنتيجة القراءة إلى اختلاف أسلوب الرواية وحرارة النَّفَس الروائي الذي ينفخه الكاتب في الرواية العربية. وتتخلّل القراءة ملاحظات منهجية متفرّقة.

قضايا أدبية

وفي إطار القضايا الأدبية التي تثيرها المدوّنة الروائية الحديثة، يتناول المديني الأعطاب التي تعتور هذه المدوّنة، فيشير إلى: عدم تبلورها في تيار روائي له مواصفاته المحدّدة، استخدامها اللغة الإنشائية الفضفاضة غير الوظيفية سردياًّ، اشتمالها على الحشو اللغوي والشعري، الخلط بين المناجاة والمونولوغ الداخلي، تحميل المونولوغ والحوار حمولة فكرية لا قِبَلَ لهما بحملها، طغيان تقنيات غير روائية على الروائية فيها، التفكك الأجناسي داخل الرواية، والانتفاخ التجميلي ما يجعل الدارس يسمّيها بـ “رواية البوتوكس”، وغيرها.
وانطلاقا من هذه الأعطاب، يمكن القول إن الصورة التي يرسمها المديني للمدونة السردية الحديثة هي صور سلبية تستبطن حنيناً مشروعاً إلى الرواية الكلاسيكية وما تتمتّع به من صرامة فنية والتزامٍ بالمعايير الروائية الجمالية، ما يطرح الحاجة إلى تقعيد الرواية الحديثة ووضع الأسس الفنية والمعايير الجمالية لها. هذا ما يعلنه المديني ويضمره في غير موضع من كتابه. وفي هذا السياق، ولأن الشيء بالشيء يُذكَر، ثمة ضرورة، برأيي، لتحويل “قراءة الذائقة” التي يدعو إليها ويستخدمها في كتابه إلى مصطلح يتم تحديده بدقة منهجية، وإلى منهج قراءة له محدّداته، ما يجنب القراءة الخوض في فوضى الانطباعية غير البناءة.
وبعد، “في حداثة الرواية العربية” مدماك آخر في عمارة المديني النقدية، يشكّل قيمة مضافة إلى منجزه الفكرـ نقدي، وتُبنى عليه مداميك أخرى منتظَرة. وفي قراءته فوائد جمّة ومتع كثيرة.


الكاتب : سلمان زين الدين

  

بتاريخ : 27/01/2023