أخلاق الغرب.. التعبير الأسمى عن الحضيض -09- حنة آرندت: الشعور بالانتماء إلى الأغلبية قد يؤدي إلى تقديم شهادة زور !

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ذلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن، غربته الكبرى بين قيم التنوير وما يتأسس عليه وجوده وهويته الحضارية. ذلك أن الغرب أصبح، مع ما جرى خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما يجري الآن في غزة، وفي أكثر من بقعة على خارطة العالم، محلَّ تساؤلٍ مريب، بالنظر إى ازدواجيته الأخلاقية هو الذي يقدم نفسه بوصفه «التعبير الأرقى عن الكمال التاريخي للبشرية». بل إن عقل الغرب، كما يقول المفكر محمود حيدر، ينظر إلى التنوع الثقافي أو الحضاري «كَقَدَرٍ مذموم لا ينبغي الركون إليه. ومن هناك جاء التغاضي عن الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب هنا وهناك، وعلى رأسها ما يجري الآن للفلسطينيين على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي المدعومة بالفيتو والسلاح الأمريكيين..

 

تؤكد حنة آرندت أن الحقيقة الواقعية ليست أكثر بداهة من محض الآراء، ولعل هذا ما يفسر، في رأيها، أن «حملة الآراء» يجدون تفريغ الحقائق الواقعية من مصداقيتها وإلباسها لبوس «مجرد رأي آخر» أمراً سهلاً.
وتذهب صاحبة «حياة العقل» إلى أنّنا «عادة ما نبني الأدلة على الحقائق الواقعية من خلال وسائل كشهادات شهود العيان (والتي اشتهرت بكونها غير موثوقة) ومن خلال السجلات والوثائق والنصب التاريخية، ومن السهل التشكيك في جميع هذه الوسائل من خلال الزعم بأنّها أدلة مزيفة. في حال وقوع أي نزاع عن حق ما لا يمكن الوصول إلى نتيجة حوله إلاّ من خلال استدعاء شهود آخرين، ولكن لا يمكننا اللجوء إلى سلطة ثالثة أعلى من الطرفين المتنازعين، وعادة ما يتم التوصل إلى حل لنزاع كهذا من خلال رأي الأغلبية، أي بالطريقة ذاتها التي يتم من خلالها حل النزاعات حول الآراء، وهي عملية غير مرضية بأي حال من الأحوال، وإذ لا يوجد ما يمنع أي غالبية من الشهود من أن يكونوا شهود زور، بل الأمر على عكس ذلك تماماً: ظروف معينة قد يدفع شعور الفرد بالانتماء إلى الأغلبية به إلى تقديم شهادة زور بالفعل! بعبارة أخرى: بقدر ما تكون الحقيقة الواقعية عرضة لعداء حملة الآراء، فإنّها تكاد تكون بذات درجة ضعف الحقيقة الفلسفية العقلانية. كنت قد لاحظت من قبل بأنّ «مخبري الحقيقة الواقعية» هم في الواقع أسوأ حالاً من الفيلسوف الذي وصفه أفلاطون، لأنّ الحقيقة التي يحملونها لا ترجع إلى مصدر متعال، ولا حتى تحمل بعض الصفات السامية نسبياً، مثل بعض المبادئ السياسية المثالية كالحرية والعدالة والشرف والشجاعة والتي قد تلهم بعض الأفعال الإنسانية وتتجلى فيها بعد ذلك».
وتشير الفيلسوفة الألمانية إلى «هذه العيوب في وضع قائل الحقيقة الواقعية تحمل في ثناياها تبعات أخطر مما ظننا، أي تبعات لا تنعكس على الشخص القائل للحقيقة فحسب، بل الأخطر من ذلك أنّها تنعكس حتى على فرص الحفاظ على تلك الحقيقة. قد لا تتمكن دوافع مثل «إلهام الأفعال الإنسانية ومن بعد ذلك التجلي فيها» من الصمود أمام أدلة الحقيقة، ولكنّها، وكما سنرى قد تتمكن من التنافس مع النزعة الإقناعية المتأصلة ضمن الآراء، لقد استخدمت الطرح السقراطي القائل: «تحمل الظلم خير لك من أن تكون أنت ظالماً» كمثال على العبارات الفلسفية التي تتعلق بالسلوكيات الإنسانية، وبالتالي تحمل في ضمنها دلالات سياسية، أمّا أسباب إدراجي لهذه العبارة فإحداها هو أنّها تحولت لاحقاً إلى بداية الفكر الأخلاقي الغربي، أمّا الآخر فهو أنّها وبحسب علمي ظلت هي الطرح الأخلاقي الوحيد الذي يمكن لنا أن نستمده مباشرة من التجربة السياسية (يمكن لنا أن نجرد «الأمر المطلق» الذي تقدم به كانط، وهو المنافس الوحيد لطرح سقراط في ذلك المجال، من مكوناته الدينية اليهودية والمسيحية، والتي جعلته «أمرا» بدلاً من «طرح»، وسنجد أن المبدأ الكامن وراءه هو «عدم التناقض»، فاللص يناقض نفسه إذ إنّه، وبعد أن يسرق ممتلكات الآخرين، يود أن يضمن الحفاظ على ما سُرق كممتلكات له هو شخصياً، ولكن هذا المبدأ يدين بصحته للشروط ذاتها التي كان سقراط هو أول من اكتشفها). لا تنفك الحوارات الأفلاطونية عن إخبارنا مرة تلو مرة عن كم بدت العبارة السقراطية (وهي طرح وليست أمرا) متناقصة، وكم كان من السهل ردها في الأسواق العامة، حيث يقف الرأي ضد الرأي الآخر، وعن مدى عجز سقراط عن إثباتها وإثبات صحتها وليس فقط لمناوئيه بل حتى لأصدقائه وتلامذته.
بالنسبة إلى الفيلسوف، تقول آرندت، بل وبالنسبة للإنسان من حيث هو كائن مفكر، لا يقل هذا الطرح الأخلاقي الدائر حول فعل الظلم وتحمله إلزاماً عن أي حقيقة رياضية، ولكن بالنسبة إلى الإنسان من حيث هو مواطن، أي كائن فاعل يهتم بالعالم وبالمصلحة العامة بدلاً من سعادته الشخصية بما في ذلك مثلاً «روحه الخالدة» التي ينبغي تغليب مصلحتها على حاجات الجسد الفاني، فالعبارة السقراطية غير صحيحة أبداً، ولطالما أشار التاريخ إلى النتائج الكارثية التي حلت على المجتمعات التي شِرعت باتباع تعاليم أخلاقية تعود إلى فرد –سواء كانت هذه التعاليم «سقراطية» أم «أفلاطونية» أم «مسيحية».
وترى مؤلفة «ما السياسة؟» أنّ «الحقيقة الفلسفية تهم الإنسان من حيث أنّه كائن منفرد فهي لاسياسية بطبيعتها، لكن الفيلسوف إذا أراد لحقيقته أن تسود على آراء الجماهير رغم ما ذكرناه، فإنّه سيذوق مرارة الهزيمة، ولربما تؤدي به هزيمته إلى خلاصة مفادها أن الحقيقة بطبعها عقيمة، وهي من البديهيات التي يمكننا تمثيلها بأنّ عالم الرياضيات حين لا يتمكن من تربيع الدائرة فسوف يشعر بالأسى أمام حقيقة كون الدوائر ليست مربعات! عندها لربما راودت الفيلسوف نفسه وكما هو الحال مع أفلاطون أن يستميل أذن أحد الطغاة أصحاب الميول الفلسفية، وإذا نجح في ذلك، ولحسن الحظ، فإنّ فرص النجاح هذا ضئيلة للغاية فسوف يبني إحدى صور استبداد «الحقيقة» التي نعرفها بالدرجة الأولى من خلال اليوتوبيات السياسية المختلفة، والتي لا تقل في الحقيقة عن أي استبداد آخر مصادرة وطغياناً».

 


الكاتب : إعداد: سعيد منتسب

  

بتاريخ : 02/04/2024