النظر المتجدد في القضايا والإشكالات الثقافية والأدبية بين البلدين الجارين إسبانيا والمغرب من مهام الباحث الأكاديمي الإسباني والمغربي أيضا، فهو من صميم البحث العلمي، وله ارتباط كبير بهموم الأساتذة والدارسين والباحثين في هذا المجال، والكتاب الذي بين أيدينا يُجسد هذا الاهتمام، وهو للكاتب المغربي الدكتور محمد أبريغاش، الذي تجسد أعماله انخراطا واعيا في صلب الموضوع، والتزاما برؤية فكرية واضحة المعالم في موضوع الأدب المغربي المكتوب باللغة الإسبانية الذي يكرس في جانب كبير منه الارتباط الحميمي بين ضفتي المتوسط، والرغبة الملحة في استثمار التاريخ المشترك من أجل ربط الماضي بالحاضر، واستشراف مستقبل موسوم بالإشراق والتميز.
يحلل الكاتب محمد أبريغاش إشكالات موضوعه، ويطرح قضايا ويناقشها بمنهج نقدي تحليلي، ويبذل جهدا علميا كبيرا في سبيل تقديم مقترحات ورؤى علمية معرفية، تروم الإسهام في تجاوز مختلف الإشكالات المعروضة في متن الكتاب الذي صَدَرَ في نهاية شهر أكتوبر من هذا العام 2024، عن دار النشر ديوان مايريت في مدريد باللغة الإسبانية بعنوان:
“Moros con letras en la costa. Introducción a la literatura marroquí en lengua española”
ويندرج هذا الكتاب ضمن المشروع الفكري للكاتب الذي أمضى ما لا يقل عن عشرين سنة، مُكَرِّسًا بحوثَه وكتبه للأدب الإسباني المعاصر، وبالأخص، للكتابات السردية حول المغرب وشمال إفريقيا، اقتناعا منه بواجب تسليط أضواء البحث العلمي الكاشفة على هذا الأدب، بوصفه بوصلةً تقود إلى تحقيق المبتغى، وتساهم في إماطة اللثام عن المشترك، وعن الارتباط العميق المفعم بعبق التاريخ بين البلدين الجارين: المغرب وإسبانيا، وتعمل على فك العزلة الأدبية عن هذا الأدب، وإخراجه من حيز الهامش، ومنحه آفاقا رحبة للعالمية والكونية، وقد بدأ هذا المشروع يعطي أُكْلَهُ، بعدما صار محط اهتمام ومتابعة ثقافية ونقدية في إسبانيا والولايات المتحدة، وفي غيرهما من البلدان.
وقد ساهمت أنشطة الكاتب ومهماته ومسؤولياته في تحقيق هذا النجاح، فهو يرأس الجمعية المغربية للدراسات الإيبيرية والإيبيرية الأمريكية، وهو أيضا أستاذ الأدب الإسباني في قسم الدراسات الإسبانية بجامعة ابن زهر بأكادير، ويتمتع باحترام كبير في الوسط الثقافي الإسباني، وقد حُظِيَ كتابُهُ بدعم وزارة الثقافة الإسبانية.
يَهدِفُ كتاب” Moros con letras en la costa “إلى تقديم قراءة مغربية من داخلِ المغرب لثالث أهم أدب وطني لدينا، وهو الأدب المغربي المكتوب باللغة الإسبانية، خاصة بعد الطفرة التي شهدها النِّقاشُ الناشئ حول الأدب الإفريقي-الإسباني الذي لم يعد يقتصر على غينيا الاستوائية والمغرب فقط، كما كان مألوفًا قبل عقدين من الزمن تقريبًا، بل أصبح يمتد بقوة متزايدة إلى بلدان لم يكن لها وجود استعماري إسباني من قبل، مثل تونس والكاميرون، بالإضافة إلى بلدان أخرى مثل الجزائر والسنغال وساحل العاج.
يتألف هذا الكتاب من ستة فصول مستقلة، تتناول جوانب مختلفة من الأدب المغربي المكتوب باللغة الإسبانية، تتعلق بإشكالية تسميته المفاهيمية، والمختارات الأدبية التي تَوَلَّدَتْ عنه، ونسبه أو أصلُه المرتبط بالاستعمار أو ما وراء الاستعمار، وطبيعة هذا الجنس الأدبي الحديث النشأة، وسبب ندرة الإبداع والتَّلَقّي، وتصنيفه شكلا وموضوعا، بالإضافة إلى التَّطَرُّقِ إلى النظام الخاص بنشره وتوزيعه.
الفصل الأول من الكتاب عبارة عن تقييم عام للجدل النقدي الأوَّلي الذي رافق هذا الأدب المغربي المكتوب باللغة الإسبانية، وكذلك لمجمل الإنتاج التخييلي الذي أفرزه في مختلف الأجناس الأدبية، خاصة الرواية والشعر والسرد القصير، وقد وضَّحَ الكاتب في هذا الجزء التسميات المختلفة التي استعملت لتسمية الأدب الذي نحن بصدده، مقترحا كتسمية واقعية وموضوعية: الأدب المغربي باللغة الإسبانية.
أمّا في الفصل الثاني فقد خصصه الكاتب لدراسة تحليلية للمختارات التي أُنتجت منذ عام 1996 في المغرب وخارجه، والتي يقارب عددها العشرة، محاولًا تحديد شعرية هذه الممارسة الأنطولوجية، وأهدافها المنشودة، ومعايير الاختيار المستخدمة، وطبيعة النصوص المختارة، والتناقضات التي لوحظت أثناء إعدادها.
ويقتصر الفصل الثالث على مساءلة الطابع الاستعماري للأدب المعني من خلال تأكيد طبيعته المرتبطة بما بعد الاستعمار، وذلك من خلال استدلالات جمالية وتاريخية وسياسية مختلفة.
يعزز الفصل الرابع فكِرة حداثة المتخيل المكتوب باللغة الإسبانية، فهو لا يزال، في نظر الكاتب، في طور عملية بناء وتعريف ذاتي مستمرة وغير متواصلة، ومستقبله غير مؤكد، وهذا ما يفسر التدهور الحاصل في تدريس اللغة الإسبانية في المغرب خلال السنوات الأخيرة، فطبيعة هذا الأدب الحديث لم تكتمل بعد، وذلك راجع لثلاثة عوامل: ندرة الكتابة الدرامية بشكل عام، وغياب التراكم من حيث الإبداع والتخييل، وانقطاع دائرة التواصل عند المتلقي.
أما الفصل الخامس فيرتكِزُ على التصنيف السردي من خلال تحديد بعض مميزات الكتابة عند مُؤلِّف واحدٍ أو مجموعة من المؤلفين، الذين قد يجمعهم بلد واحد وثقافة واحدة أو أكثر، ويُحَدِّدُ الكاتب في هذا الفصل ستة أنواع سردية تخضع للشعرية النصية ولموضوعية معينة، يعرضها بتفصيل، ويُحَلِّلُ خصائصها العامة.
خصص الكاتب الفصل الأخير لظاهرة النشر والتوزيع المرتبطة بهذا النوع الأدبي، وسلط الضوء على الوسائط غير التقليدية التي يستخدمها المؤلفون، مثل النشر الذاتي والاعتماد على الصحافة والمجلات، ولم تفت الكاتبَ في هذا الفصل الإشارةُ أيضا إلى الوسائط التكنولوجية الجديدة التي يجب الاستفادة منها في مجالي النشر والتوزيع.
ختاما، نأمل أن يثير هذا الكتاب مزيداً من النقاش النقدي بين الأوساط العلمية المهتمة بالموضوع، لكي يُسهِم بشكل بنّاء وإيجابي في فهم هذا الأدب الناشئ، ومنحه حماية قانونية، وإكسابه مزيدا من التطور والرسوخ.
(*)مهتمة بالشأن الثقافي المغربي والإسباني