« أدونيس» لحسن الغُرفي.. في الإبداع والتظير الشعري

يختلف كثير من الناس لا سيما أولي الاهتمام بالشعر ونقده، والمعنيون بالثقافة والفكر، حول حقيقة أدونيس، ويعدونه شخصية إشكالية، ولا يخلو هذا الخلاف من مسوغ، فبين دعواته للثورة، والتجديد، والتحرر من النظرة القديمة للدين، وهي دعوات تصل درجة الإلحاد، نجده في بعض المواقف يتناقض مع هذه الأفكار تناقضا صارخا. فقد صنف مع خالدة سعيد كتابا صدر عن دار العلم للملايين في بيروت (1983) يثنيان فيه على رائد السلفية الوهابية الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ويعدانه بطلا من أبطال النهوض. ولا يجد أدونيس حرجًا في أن يقف ضد المطالبين بالحرية والديمقراطية في بلده التي غادرها منذ زمن طويل ليعيش ملاحقا في منفاه. ومع هذا فإن له في الشعر، وفي نظريته، من المآثر ما لم يتح لغيره، وفضلا لا يزاحمه فيه إلا القلة النادرة من ذوي البصر في الأدب، والبصيرة.

 

في كتابه «أدونيس في الإبداع والتنظير الشعري» يتصدى د. حسن الغُرفي لإعادة النظر، لا في شعره حسب، بل في كتبه الأخرى، التي هي أقرب إلى النثر منها إلى الشعر، وإلى النظرية منها إلى النقد. فالمعروف أن الشاعر الذي تخلى عن اسمه (علي أحمد سعيد أسبر) مطلقا على نفسه اسم أحد أبطال الأساطير، نشر الكثير من المجموعات الشعرية، والدواوين التي تنقل فيها من النظم التقليدي الذي يعتمد البحور والقوافي، إلى ما يعرف بقصيدة النثر، مرورا بجل المحاولات التجريبية التي طرأت على القصيدة العربية. فكان أحد رواد هذه التجارب، متأثرا، لا بالأوضاع الثقافية المستجدة في الأدب العربي وحدها، وإنما في الآداب الغربية، لا سيما الفرنسية منها. وعلى وجه الخصوص المدارس الرمزية، والسوريالية، وحتى الشعراء الميتافيزيقيين، ودعاة الصورة imagists والمعادل الموضوعي.
وفي كتابه هذا قسمان اثنان: الأول منهما يتناول دوره في الشعر إبداعا وتجديدًا. وفي الثاني منهما يتناول دوره في التنظير الشعري، وهذا التعبير « التنظير الشعري « تعبير إشكالي، فليس ثمة ما هو تنظير شعري، وأحسب أن المؤلف يعني بهذا التعبير ما نُشر لأدونيس من مقالاتٍ، وكتبٍ، تعنى بنظرية الأدب وما يتصل منها بالشعر، لا بغيره. ولا يفوت المؤلف التذكير بما يراه أدونيس في نفسه، وهو أنه ليس ناقدا كغيره من الشعراء الذين برعوا في النقد براعتهم في الشعر كإليوت، وجبرا إبراهيم جبرا. لذا يقول في حوار أحالنا إليه الغُرفي «لا أعدّ نفسي ناقدا أبدا»(ص 99).

توظيف التراث

وفي القسم الأول ثلاثة فصول، أولها عن توظيف التراث في شعره، والثاني عن النزعة الدرامية لديه، والثالث عن بنية الإيقاع فيه. فأدونيس كغيره من شعراء الجيل الذي ينتسب له وينتمي(الرواد) تتوافر في شعره الاقتباسات من التراث الأدبي، والديني، والصوفي، والتاريخي. ولديه قصائد يركز فيها تركيزا شديدا على صقر قريش، ومهيار الديلمي (الدمشقي) وأبي العلاء المعري، وبشار، وأبي نواس، وغيره.. وغيره.. وما يختلف به عن الشعراء الآخرين إنما هو فارق كمي، لا أكثر ولا أقل.
ويبدو أن الدكتور الغُرفي لاحظ هذا فاكتفى بذكر أسماء الشخوص ممن اتخذهم الشاعر أقنعة يعبر عن ذاته من ورائها، أو أصواتا يخفي عبرها صوته الخاص. وتبعًا لذلك يذكر لنا عناوين القصائد التي تتجلى فيها مثل هاتيك الاقتباسات: كالبعث والرماد(1)، والرأس والنهر، و السماء الثامنة إلخ.. وهذه الصياغة فرضت على قصيدة أدونيس مفردات تميز فيها عن غيره. ومنها « الكشف، والنشوة، والغياب، والحضور، والقطب، والمواجد، والتجلي، والخفاء، والخلوة، والبرزخ، والرؤيا» (ص19).

البعد الدرامي

أما مصادره التي استقى منها تلك الأقنعة فمتعددة جدا، فعلاوة على التراث الشرقي العربي من بابلي وآشوري وسومري وفينيقي، ثمة تراث آخر غربي يوناني وروماني (أوروفيوس مثلا) والتراث الصوفي، إسلامي وغير إسلامي، والتاريخ العربي وغير العربي، فإيزيس ونفرتيتي وتموز وعشتار نماذج يجدها القارئ لدى الأديان، والتواريخ، بصفة تستعصي على التحديد.
واللافت أن المؤلف الغرفي يتنبه إلى شيءٍ خاص في توظيف أدونيس للتراث، ونعني بهذا شيوع النزعة الدرامية في شعره. فالقصيدة، لاسيما الطويلة مثل «حزمة القصب « أو «تحولات الصقر» أو «تيمور ومهيار» أو « ملوك الطوائف» تسودها الحوارات، مما يضفي على القناع فيها بعدًا دراميًا يقرّبها من المسرحية. فتغدو مثالا لتداخل الأجناس الأدبية بعضها ببعض. فالشعر يتحول من الغنائي إلى القصصي، والدرامي، مع الاحتفاظ في الوقت نفسه بغنائية ينماز بها عن النثر، وعن أي جنس أدبي آخر. وهذا جلي وواضح في قصيدته «تحولات الصقر «التي ابتعث فيها الشاعر أدونيس أمير الأندلس عبد الرحمن الداخل في أربعة فصول، الأخير منها يبشر بانبعاث الصقر مجددا:
وقيل بعد القبر شق القبر، ألقى
موته، وطار
يبحث عن أمومةٍ
في وطن الإنسان

الوزن والإيقاع:

يستهل الغرفي الفصل الثالث من هذا القسم بشهادة اقتبسها من أدونيس يتحدث فيها عن علاقته بالشعر. ومن هذه الشهادة يستنتجُ القارئ أن أدونيس لم يتقحَّم الشعر تقحمًا كالكثير من الأدعياء والمتطفلين. فقد نشأ قارئا للشعر العربي منذ الصغر، وكان في طفولته، وبتشجيع من والده، يتلو أشعار أبي تمام والشريف الرضي على مسامع زواره، مما وضعه على قدم المساواة مع رواة الشعر، وإلى هذا يعزو رسوخ اللغة الشعرية في ذهنه بما في ذلك أسرارُ الإعراب، وما فيها من تعقيد، وهو في الثانية عشرة من عمره.
وفي هذا المبحث يوقفنا الغُرفي إزاء البنية الإيقاعية في أشعار أدونيس، وما هي المرتكزات التي تقوم عليها، مذكـرًا بدراسات له سابقة عن التشكيل الإيقاعي في شعر محمود درويش، والبنية الإيقاعية في شعر حميد سعيد، وحركية الإيقاع في الشعر العربي المعاصر. والمؤلفُ ينطلق – ها هنا – من قاعدة أساسيَّة لا نختلف فيها معه، وهي ضلوع الشاعر في النظم التقليدي (الكلاسيكي) أيْ: ما يسمى خطأً العمودي، يضمن له شعرًا رائع الجرس، متقن الموسيقى، حتى وإن خرج على أوزان الخليل وبحوره. أو تجاوز القافية الموحّدة المتكـرّرة. وهو يضمن ذلك لو تخلى عن القافية، وعن الوزن، وكتب ما يعرف بجامع البحور أو الشعر خارج النظم، فحتى هذه التجاربُ تُغلِّب على هذا الصوت الشعري سمة الإتقانِ الصوتي وعذوبة الأداء. وتبعا لذلك، فإن البحث في أوزان استخدمها أدونيس كالمتدارك والرجز والمتقارب والرمل والكامل وغيرها، لا يقدم ولا يؤخر. فالشعراء جلهم يستخدمون هذه الأوزان تامة أو مجزوءة. ونحن نرى أن هذا الجزء، وإن كان ضرورياً، إلا أنه لا يُسفر إلا عن القليل من السمات الإيقاعية التي تشهد لأدونيس بما في شعره من بصمة يعرف شعره، ويختلفُ، بها عن غيره.
ولكن المؤلف سرعان ما تنبه لشيء آخر لدى أدونيس، وهو التنوُّع الإيقاعي. فالشاعرُ، يعمد في بعض قصائده، للمقطوعات بحيث تتألف القصيدة من ائتلاف عدد قليل، أو كثير منها. ولكلّ مقطوعة وزن خاص. وقد يتكرر هذا الوزن أو ذاك في مقطوعتين، أو أكثر. ويلتزم في أشعاره بالقوافي مرسلة أو متقاطعة، أو متكـرّرة. ويعمد للتدوير كما هي الحال في قصيدته المشهورة «هذا هو اسمي» .
ومما يسترعي الانتباه، ويلفت النظر، ما يذكره المؤلف من أدوات يعتمدها أدونيس بكثرة لتوفير ما تحتاج إليه القصيدة من تنوُّع إيقاعي، فأوّل هذه الأدوات، وأحراها بالذكر، التكرار. وهو تكرار لا يفتأ يؤدي وظائف كالتأكيد، والإيحاء، والإقناع، والإلحاح، والتحريض. ومنه ما يكون في بداية القصيدة، ومنه ما يقع في آخرها، أو في بداية كلّ وحدة، إذا بنيت على نسق مقطوعي. فهذا وأمثاله يتكرر في جناس الاستهلال بالتتابع:
مهيارُ وجهٌ خانه عاشقوه
مهيارُ أجراسٌ بلا رَنين
مهيار مكتوبٌ على الوجوه
ومن التكرار ما يكون خطيًا، فيجاور الجزءُ المتكرر جزءا آخر متكررًا ، فتنتظم التكرارات في شريط متسق الإيقاعات:
هل أبدل الجدار بالجدار
وحيرتي حيرةُ من يضيء
حيرةُ منْ يعرفُ كلَّ شيء
والتكرار لدى أدونيس يقع في اللفظ، والتركيب، والجملة، وفي اللازمة. وأيا ما يكُنِ الأمرُ ، فإن استقصاء مثل هذه الأدوات في شعر أدونيس، أو غيره، مما لا سبيل إليه، لكثرة توافره في الشعر الحديث.
من الجدير بالذكر أنَّ المؤلف – في ما يبدو- اختصر الحديث عن التنوع الإيقاعي، وأدواته، ذلك لأن التكرار ليس وحده مما عمد إليه الشاعر، ولا بد أنّ الأمْرَ محتاج لفصل، أو فصول يتناول فيها الغرفي، أو غيره، خياراتٍ أخرى للزخرفة الإيقاعية، والتأنق الصوتي، والوقوف بأناة إزاء الظواهر التطريزية الشائعة في شعره. وهذا شيءٌ يقدِرُ عليه الغرفي، وتجاربه السابقة تشهد له بهذا، لا سيما ما كتبه عن شعر محمود درويش، وحميد سعيد، وحركية الإيقاع في الشعر العربي المعاصر.
الشاعرُ ناقدًا:

أما ظاهرة الشاعر ناقدًا، والناقد شاعرًا، فتستحقّ الإثارة، ذلك لأن المؤلف اختار أن يكون الإبداع أولا، والتنظير « الشعري « تاليًا. ومع أنَّ أدونيس ينفي أن يكون ناقدًا، إلا أن ما جادت به قريحته المتوثبة من مؤلفات؛ كزمن الشعر، والشعرية العربية، ومقدمة للشعر العربي، وسياسة الشعر، وصدمة الحداثة، يؤكد أنه – وإن لم يكن ناقدًا محترفا – فإن لديه أنظارًا نقدية يتجاوز بها، ويتخطى، النقاد الذين مارسوا النقد كتابةً، ونشرًا، لزمن غير قصير. فأدونيس يرى في مفهوم الشعر عند المتقدمين مفهومًا عفا عليه الزمن، وتجاوزهُ الموقف الشعري، والنقدي. فتعريف القدماء للشعر بأنه « الكلام الموزون المقفى الدال على معنى» تعريف سطحي، وساذَج، ما أحرانا بتجاوزه.
بَيْدَ أنّ أدونيس برفضه هذا التعريف، وسخريته اللاذعة منه، يتجاهل السياق، وأثره في هذا التعريف، فقد أرادوا به التفريق بين الشعر والنثر، لا تحديد طبيعة الشعر من حيث هو تعبير. ولو أنهم اطلعوا على ما يقوله أدونيس، وغيره في هذا التعريف، لاستضحكوا من وهمه هذا، وقالوا: إنما أردنا بهذا التفريق بين ما هو نظم، وما هو نثر، أما إذا شئتم تعريفًا يلقي الضوءَ على طبيعة الشعر، وجوهره، وما فيه من التخييل، والتصوير، وفنون الأداء والتعبير، فإليكم الكثير مما هو متوافرٌ في كتب البلاغةِ، والبيان.
وقد أصلح المؤلف من موقف أدونيس هذا بذكره عددًا من المصطلحات التي دأب على استعمالها؛ كالرؤيا، والتنبؤ، والكشف، والتخطي، والرمز، والصورة، والحُلُم، والحساسية. والشاعر عنده هو الرائي تارةً، والحالمُ، المتمرد، تارةً أخرى. وثمة جانبٌ آخر من مفهومه للشعر، وهو توكيده على قوة التخييل، وذلك شيءٌ لم يهمل الحديث عنه الفلاسفة المسلمون في تناولهم للأقاويل الشعرية. ولدى حازم القرطاجني (684هـ)، صاحب «منهاج البلغاء وسراج الأدباء» المزيد مما له علاقة وثيقة بقوة التخييل الشعري.

وهمُ الحداثة:

لأدونيس رؤية خاصة في الحداثة، فهي حداثة لا علاقة لها بالزمن. فقد يكون الشاعر القديم حداثيًا والمعاصر ليس حداثيًا. وهي قد تكون لدى الأقدمين كبشار، وأبي نواس، وأبي تمام، والمتنبي. والقدماء استخدموا كلمة « المحدَث» وكانوا يعنون بها الجديد زمنيًا، وأرادوا أيضا باللفظ نفسه ما خالف التقاليد القديمةِ منهجًا، ورؤيةً. أما أدونيس، فيرى الحداثة في «الرؤيا « التي يتجلى أثرها في اللغة، والصورة، والرمز، وآليات التعبير. فأبو نواس، على سبيل المثال، حملَ لواء الدعوة للتجديد والحداثة في شعره:
صفة الطلول بلاغة الفَـــــدْم
فاجعلْ صفاتك لابنة الكـرْم
وإذا وصفتَ الشيءَ متَّبــــعًا
لم تخـلُ من غلـطٍ ومن وَهْـم
غير أن هذه ليْست حداثة، بل شبه حداثة، لأنّ الشاعر صاحب هذين البيتين استبدل وصف الخمرة (ابنة الكرْم) بوصف الطلول. أي أنّ الحيز الخاص بالطلل بقي على ما كان عليه، إلا أن المادة التي تملؤه هي صفة الخمر، لا الأطلال. فمقدمة القصيدة ينبغي لها أن تكون لأحد هذين الموضوعين، وهو في جلّ الأحوال موضوع منفصلٌ، ومستقلٌ، عن موضوع القصيدة. فالحداثة لدى أدونيس تقوم على أركان عدة اجتماعية، وثقافية، وفكرية، وإيديولوجية، علاوة على الإفادة من مختلف المصادر، ولا سيما الغربية منها. فجوهر الحداثة الأدونيسية سوريالية، رمزية، ثورية، تستوعب كلا من القومي، والجمالي، والرمزي، والحضاري.
ويحاول أدونيس أن يكتب في غير موضع ما يمكن أنْ يعدّ تنظيرًا لقصيدة النثر. وأشار الماغوط، وأنسي الحاج، وغيرهما.. لفضله على الأصوات الجديدة في هذا اللون من ألوان الشعر. بيد أن الشكوك تساور بعض الباحثين في أصالة آرائه هذه. ويزعم غير واحدٍ منهم أنّ لآرائه في قصيدة النثر علاقة هي أكثر وأبعد شبهةً من توارد الخواطر، ووقوع الحافر على الحافر، بما كتبته سوزان برنار في كتابها «قصيدةُ النثر من بودلير إلى زماننا هذا(2) «. وممن يؤيد هذه النظرية كاظم جهاد صاحبُ كتاب « أدونيس منتحلا «(3).

هوامش:

1- انظر دراستنا لهذه القصيدة – الرؤية الملحمية في الشعر العربي؛ في الصوت المنفرد، ط1، عمان: أمواج للطباعة والنشر، 2011 ص ص 97 – 11
2- لهذا الكتاب ترجمتان، إحداهما صدرت في مصر لراوية صادق، ومراجعة رفعت سلام، وترجمة أخرى صدرت في بغداد لزهير مغامس.
3- كاظم جهاد: أدونيس منتحلا،ط1، بيروت، 1978. ط2، مكتبة مدبولي ، القاهرة، 1991 .


الكاتب : إبراهيم خليل

  

بتاريخ : 18/08/2023