أزرق الأعماق (رسالة إلى عبد الكريم الغطاس)

صديقي وزميلي العزيز،
أطرح على نفسي السؤال، بمناسبة معرضك بقاعة «لوفت آرت غاليري» (Loft Art Gallery): كيف يمكن للذاكرة أن تستعيد اليوم ماضيها بعد خمسين عامًا مضت؟. لأن ذلك ما سجلته دوما بخصوصك، وإلى حد ما مع عبد الرحمن رحول أثناء إقامتنا الفنية في الهند عام 2019، ثم مرة ​​أخرى في ورشة عمل بأصيلة قبل عامين. مع الإشارة إلى أن لي نفس الملاحظة بخصوص حميدي، لكن بدرجة أقل. أما لعرج (عبد القادر) الذي هو امتداد لمنجز محمد المليحي، قبل وفاته وبعدها، فهو غير معني بملاحظتي.
الأمر يعود إلى زمن «مجموعة 65» التي أطلق فكرتها عبد اللطيف اللعبي بالدار البيضاء، إلى جانب شبعة والمليحي الذين التقوا حول مجلته «أنفاس». بينما اتسم فريد بلكاهية بتعاطفه مع المجموعة تلك، مع غير قليل من الحذر بسبب حساسية منصبه كمدير لمدرسة الفنون الجميلة حينها. مع تسجيل أن تدخلا لنقابة الاتحاد المغربي للشغل (عبر صديق) هو الذي سمح لبلكاهية أن يتقلد ذلك المنصب. مع الإشارة إلى أنه قد حصل قبل ذلك على منحة للدراسة بأوروبا الشرقية من خلال نفس النقابة، ولقد فرض ذلك على بلكاهية أن يظل ممتنا للاتحاد المغربي للشغل. ثم شاءت الأمور أن تصبح المسألة العمالية نقطة رئيسية على جدول أعمال الخط التحريري لـ «أنفاس» ومنظمة «23 مارس» بعد ذلك. رغم كل ذلك، بقي بلكاهية على مسافة معينة، غير مفرط في واجب اليقظة في علاقته بتلك المجلة اليسارية.
كانت مرجعية مدرسة «بوهوس» (الألمانية) الإطار الذي يوحد بين أعضاء تلك المجموعة وأتباعها. بينما كان من الصعوبة بمكان عليها حل قضية مركبة ومعقدة مثل سؤال الهوية في الفن باستخدام الأسلوب «البوهوسي» الذي كان ع. اللعبي مصدر التفكير فيه. وبصرف النظر عن بلكاهية الذي كان مخلصًا لفلسفة «بوهوس» من خلال محاولة المزج بين الصنعة التقليدية والفنون الجميلة، فإن الجواب على ذلك السؤال من قبل باقي عناصر مجموعة الدار البيضاء، لم يكن مقنعًا. تمامًا مثلما أبدع أحمد الشرقاوي في تقديم الجواب عن ذات السؤال بفطنة، بعيدا عن أي اصطفاف إيديولوجي.
كنت أنت، حينها، طالبًا في مدرسة الفنون الجميلة (بالدار البيضاء)، متفوقا في التصميم الجرافيكي (الديزاين)، حيث عايشت مرحلة ذلك الاصطخاب الفني والثقافي، دون أن تسجن نفسك في توجه فني ما. بعد أن غادرت تلك المدرسة سنة 1968 لمتابعة دراستك في باريس، وجدت نفسك في خضم قلب حركة 68 الملتهبة. وبدار المغرب بها، انفتح عملك الفني على تعددية ثقافية ذات آفاق متعددة.
عاد الغطاس، في بداية السبعينيات، إلى المغرب كفنان محترف، وشرع في إبداع رسوماته، متأثرا بموجة تيار «مجموعة 65»، مع الحرص على نحت منهجه الخاص. واسمح لي هنا أن أذكر بواقعة يشكل جانبها المجازي واحدا من عناوين تجربتك.
كان هناك، في الممالك البعيدة للشرق، طائر غريب بحجم نسر كبير، وعلى شكل طاووس، متأنقا بريشه الذهبي، مزنرا بألوان حمراء، برتقالية وصفراء في خلفيته. ومما تقوله تلك الحكايات بالمشرق، أن العرب تطلق عليه اسم «طائر الرخ»، مثلما يعرف باسم طائر الفينيق أو الطائر الناري. ومما تقوله الأسطورة الكنعانية أنه نزل من السماء بعد أن اكتسب الحكمة والملكات السماوية وتذوق نكهة الخلود في الجنة حيث عاش ألف عام. ولقد جذبته روائح الأشجار العطرة والأعشاب الجبلية الشرقية الفواحة، فرتب عشه بعيدان القرفة وعيدان الصويا، وشرع ينشد ويغني ويردد الأغاني والأناشيد السماوية. وعندما سمعه حارس الشمس، بعربته ذات الأحصنة النارية، وقع في غرام أغنيته وانبهر بها. طلب منه الطائر أن يخبره عن حال الناس على الأرض. فواصل حارس الشمس تقديم شهادته حول أقدار البشر ومصائبهم ومعاناتهم، مما جعل العنقاء تنتفض فجأة وتصيح بغضب، مرفرفة بجناحيها مطلقة صوتا جللا من قلب عشها أفزع خيول حارس الشمس ودفعها أن تخبط خبط عشواء، كانت السبب في سقوط ألسنة نار على العش، فأحرقت ريش طائر الفينيق. تبرعمت بعدها بيضة تحت الرماد، ما لبثت أن خرج منها طائر فينيق جديد وكأنه ولد من رماد سابقه.
من زرقة الأعماق وبريق امتزاج الألوان، ها أنت ذا تولد مشعا تعيد إحياء حكاياتك الأولى للغوص في المعاني. كما لو أن الأشكال والإطارات تشققت فجأة وظهرت فروع متبلورة من بين مفاصلها. وكما لو أنك متفاجئ برونق وبهاء الألوان الصادرة من أطراف أصابعك. تلك التي تبدو كما لو أنها براعم مزخرفة تنبت خارج باب محترفك. أراك تنفض رماد الزمن لتنشره عبر ريش مزركش بألوان حياة على لوحاتك، تماما مثل طائر الفينيق الذي يرمي رماده وراءه ويتخلص من إساره. وها أنت تنحدر عبرالمسالك المتدرجة لمقياسك اللوني الهادئ الذي اعتدنا عليه، من أجل تسلق قزحية متناقضة مركبة، مثل الهندوسي الذي يلف مائة دورة من عمامته الملونة. أو على الأرجح ، مثل ساحر يسحب شرائط مصبوغة فاتنة من قبعة تخطف لب الناظرين.
لماذا انتظرت كثيرا؟ هل كان لا بد من انتظار الموت الآخذ بأنفاس «البوهوسيين» المغاربة؟ أم إنك تحيي أولئك الذين فقدناهم؟ أم أنها مجرد العودة إلى البوهوس؟
أتمنى أن تكون عودتك عنوانا للتحدي الشجاع، يا صديقي العزيز.


الكاتب : أحمد جاريد تعريب: أنس عثمان

  

بتاريخ : 17/03/2023