منذ البداية وجب أن نعترف أ ن كتابنا هذا ليس كتاب تاريخ محض، إنما هو محاولة يمكن إدراجها ضمن مجال الدراسات الثقافية التي حاول الأنجلوساكسون تطويرها – منذ ظهورها بعيد منتصف القرن الماضي – وذلك بدراسة مختلف الظواهر الثقافية اعتمادا على مناهج علوم مختلفة ومتعددة، كالتاريخ والأنثربلوجيا وعلم الاجتماع وعلم الأديان والآداب .
إنه محاولة للجواب على أسئلة مؤرقة .
لعل أهمها: لماذا تفتخر كل الشعوب بتاريخها وتنقب عما يمكن أن تجده عبر الحفريات الأركيولوجية ومختلف اللقيات حفظا لهويتها؟ إلا هذا البلد الأمين الذي يحاول في ثقافته الرسمية أن يحصر تاريخه بل والأحرى أن يوقفه في حدود القرن الثاني الهجري.
3 ـ إمارة فاس (الشرفاء الأدارسة)
يقول صاحب الأنيس المطرب: « ثم خرج في أيام الخليفة الهادي ، الحسين بن علي بن الحسن المثلث بن الحسن المثنى و ذلك في 169، وسار إلى مكة . وكتب الهادي إلى محمد بن سليمان بن علي، وكان قد قدم حاجا من البصرة، فولاه حربه فقاتله يوم التروية بفخ على ثلاثة أميال من مكة، وهزمه وقتله وافترق أصحابه، وكان فيهم عمه إدريس بن عبدالله الكامل، وبقي القتلى من أصحابه في موضع المعركة حتى أكلتهم الطيور، وكانت هذه الموقعة يوم السبت وهو يوم التروية الثامن من شهر ذي الحجة سنة تسع وستين ومائة
ولما قتل الحسين بن علي و شيعته فرّ عمه إدريس بنفسه مستثرا في البلاد يريد المغرب . فسار من مكة حتى وصل مصر ومعه مولا له اسمه راشد ، والعامل عليها للهادي، علي بن سليمان الهاشمي ..»
وقد ذكر صاحب «البيان المغرب» في فصل «ذكر ابتداء الدولة الهاشمية بالبلاد الغربية (وهم الأدارسة رحمهم لله)»
«اتفق جماعة من المؤرخين أن دخول إدريس رضي الله عنه إلى المغرب كان في سنة 170 هـ . وهو إدريس بن عبد لله بن حسن بن الحسن بن علي (ض). وكان دخوله في إمارة يزيد بن حاتم إفريقية، وإمارة هشام بن عبد الرحمن الداخل بقرطبة، وأول ظهور بني مدرار بسجلماسة. وكان نزوله بوادي الزيتون، بموضع يعرف بمدينة البلد. وكان وصوله مع مولاه راشد» . وقال «البكري» في « المجموع المفترق «وكان نزوله بوليلي وهي اسم طنجة باللسان البربري ..» (وهذا يعني أنالرجل لم يكن يعرف اللسان البربري ربما)
وذكرأيضا بنوع من التفصيل في الأسماء والأماكن بعد الواقعة (ولا ندري مدى صحة الكلام ولكن، على الدارسين أمر تبيانه):
« وذكر العذري وغيره ، إن إدريس وسليمان ابنا عبد لله بن الحسن بن علي ابن أبي طالب (رضي لله عنهم) فرا من الواقعة التي كانت أيام جعفر المنصور، وهي واقعة فخ، وكانوا ست إخوة: إدريس وسليمان ومحمد وإبراهيم وعيسى ويحيى.
ـ أما محمد فخرج بالحجاز وقتل .
ـ أما يحيى، فقام على الديلم في خلافة الرشيد، وهبط على الأمان، ثم سم و قتل.
ـ أما إدريس ففر إلى المغرب ، ودخل في أيامه من الطالبيين أخوه سليمان فاحتل تلمسان.
وداود بن القاسم بن اسحاق بن عبد لله بن أبي طالب . ثم رجع داود إلى المشرق وبقيت ذريته بالغرب .. ودخل إدريس المغرب سنة 170 و استوطن وليلي، وكانت أزلية ..»
«.. وسار إدريس مع مولاه راشد إلى إفريقية، يجدّان السير حتى بلغا إلى القيروان فأقاما بها مدة، ثم خرجا إلى المغرب الأقصى ..
كان راشد من أهل الحزم و القوة و العقل و الدين ـ كما يقول صاحب الأنيس ـ فعامل إدريس كخادم (خوفا عليه) بعد أن ألبسه ثيابا تليق بوظيفته وأخذ يأمره و ينهاه ..
«.. فلم يزالا على ذلك حتى وصلا إلى تلمسان فاستراحا بها أياما، ثم ارتحلا عنها نحو بلاد طنجة ..»
وبعد أن عبرا ملوية دخلا السوس الأدنى التي يحدها ابن أبي زرع بقوله:
«من وادي ملوية إلى أم الربيع «بينما يحد السوس الأقصى» من جبل درن إلى بلاد نول « . فسار إدريس و مولاه راشد حتى نزلا بمدينة طنجة وهي يومئذ قاعدة بلاد المغرب و أم مدنه ..»
أقام إدريس بطنجة أياما، ولكنه « لم يجد بها مراده ، فرجع مع مولاه راشد حتى نزلا مدينة وليلي قاعدة جبل زرهون»
المهم، أنه انتهى به المقام بنواحي وليلي و نزل على عبدالحميد الأوربي ( وهو اسم عليه خلاف بين المصادر)
«فنزل بها إدريس .. على عبد الحميد الأوربي المعتزلي . فأقبل عليه (اسحاق) و أكرمه و بالغ في بره ، فأظهر له إدريس أمره ، وعرفه بنفسه ، فوافقه في حاله ، وأنزله معه في داره و تولى خدمته والقيام بشؤونه»
وقد يبدو الأمر محيرا هنا، نوعا ما، ونتساءل عمن وافق من؟ فبعض المصادر ترى أن إدريس وافق الأوربي على اعتزاله، والمصار الأخرى ترى أن الأوربي وافق إدريس على تشيعه. فصاحب الاستبصار يقول صراحة: « وكان اسحاق بن محمد الأوربي معتزلي المذهب ، فوافقه إدريس على مذهبه»
«و أمر اسحاق قبيلته بطاعته وتعظيمه، وكان ذلك في خلافة هارون الرشيد..».
«وكان خروجه بعساكر القبائل الغربية حتى انتهى إلى السوس الأقصى، ودخل ماسة، فغنم وسبى، ورحل إلى الغرب سالما غانما .. وفي سنة 174 توجه بعسكره إلى رباط تازا .. فوجد في جبلها معدن الذهب، وأجابه جميع القبائل الغربية وأطاعوه وبايعوه في هذه السنة ، وكملت له الإمارة..» لقد بلغ خبره هارون الرشيد ، وصار الشريف إدريس يشكل خطرا في أقصى الإمبراطورية على الخليفة الرشيد في بغداد لأنه يرى في ذلك انحسارا لإمبراطوريته وفي نفس الوقت نقصا في موارد المملكة و خراجها الذي تعتمد عليها موارد بيت المال ، بعد أن اقتطعت الأندلس من طرف الأمويين أعداء الخلافة العباسية . وكانت فكرة التخلص من إدريس أمرا محتوما، مادام لا يمكن محاربته لبعد المسافة بين بغداد وفاس .. إلا أن فكرة اغتيال إدريس بالسم فكرة برمكية حسب بعض المصادر. فهذا صاحب «المغربفي ذكر بلاد أفريقية والمغرب» يقول: « ثم أرسل (البرمكي) إلى سليمان بن حريزالجزري (بن جرير الشماخ حسب مصادر أخرى، وكان رجلا من ربيعة ، متكلما ممن يرى رأي اليزيدية ، متعصبا لآل البيت .. وهو الذي جمع الرشيد بينه وبين هشام بن عبدالحكم حيث ناظره في أمر الإمامة ..».