منذ البداية وجب أن نعترف أ ن كتابنا هذا ليس كتاب تاريخ محض، إنما هو محاولة يمكن إدراجها ضمن مجال الدراسات الثقافية التي حاول الأنجلوساكسون تطويرها – منذ ظهورها بعيد منتصف القرن الماضي – وذلك بدراسة مختلف الظواهر الثقافية اعتمادا على مناهج علوم مختلفة ومتعددة، كالتاريخ والأنثربلوجيا وعلم الاجتماع وعلم الأديان والآداب .
إنه محاولة للجواب على أسئلة مؤرقة .
لعل أهمها: لماذا تفتخر كل الشعوب بتاريخها وتنقب عما يمكن أن تجده عبر الحفريات الأركيولوجية ومختلف اللقيات حفظا لهويتها؟ إلا هذا البلد الأمين الذي يحاول في ثقافته الرسمية أن يحصر تاريخه بل والأحرى أن يوقفه في حدود القرن الثاني الهجري.
بينما يقول صاحب « البيان المغرب ..» اقتضابا :
«..وكان المدسوس عليه رجل يقال له الشماخ فسمه و هرب إلى المشرق، ومات إدريس في سنة 175 . فقام بأمر البربر مولاه راشد وترك إدريس جارية بربرية اسمها كنزة، فولدت له غلاما سمي باسم أبيه ، وولي إدريس بن إدريس سنة 187، وهو ابن إحدى عشرة سنة ، وقيل أكثر من ذاك ..»
لقد نصب إدريس بن إدريس زعيما و قائدا عوض والده المغتال ، وهو طفل صغير. وأظن أن أولي الأمر كانوا يعرفون ما يفعلون حفاظا على لحمة القبائل المتناحرة و الرافضة لكل خضوع ما لم يكن صاحب الأمر عليهم شريفا علويا من الدوحة النبوية و سبط النبي الأكرم ..
«وبايعه جميع القبائل . وكانت عدوة القرويين غياضا في أطرافها بيوت زواغة، فأرسلوا إليه، ودبر في البناء عندهم . فكان ابتداء مدينة فاس سنة 193، وذلك عدوة القرويين ..
.. غزا إدريس بن إدريس نفزة، ووصل إلى تلمسان ثم رجع ، و وصل إلى نفيس ، فاستفتح بلاد المصامدة و توفي مسموما سنة 213 هـ ، واختلف في كيفية موته …
قال ابن حماد والبكري وغيرهما: تركمن الولد اثني عشر، وهم: محمد وأحمد وعبد لله وعيسى وإدريس وجعفر ويحيى وحمزة و(عبد لله) والقاسم وداود وعمر .. . فوُلّي منهم محمد بن إدريس، ففرق البلاد على إخوته بأمر جدته كنزة :
ـ فأعطى قاسما: طنجة و ما يليها.
ـ وأعطى عمر صنهاجة و غمارة.
ـ وأعطى داود هوارة تامليت.
ـ وولى عيسى ويحيى وعبد لله بلادا أخرى ..»
وهذا يعني في نظرنا، أن ما يسمى بالغرب لم تكن به سوى مدينتين لهما شأن كبير (طنجة ثم فاس بعد ذلك)، وما تبقى من المناطق سميت بأسماء القبائل التي تنتجعها أو تستوطنها .. لذلك حين فرق الأمير محمد البلاد على إخوته لم يسمها المؤرخ إلا بأسماء من استوطنها من القبائل .. ولم يذكر لا برغواطة ولا مناطقها وإنما ذكر السوس الأقصى على أساس (ربما) أن التواصل معها والمرور إليها كان عبر هضبة تادلة وليس تامسنا (الشاوية الحالية و بعض دكالة) ..
ثم يقول المؤرخ:
«.. وبقي الصغار من إخوته. فثار عليه عيسى ونكث طاعته. فكتب الأمير محمد بن إدريس إلى أخيه القاسم يأمره بمحاربته، فامتنع. وكتب أيضا إلى أخيه عمر فأجابه وسارع إلى نصرته .. وتوفي عمر ببلد صنهاجة، ونقل إلى فاس وهو جد الحموديين ..(الحموديون سيظهرون في الأندلس)
ثم توفي الأمير محمد بن إدريس رحمه لله فولي يحيى بن محمد بن إدريس . وولى يحيى أعمامه وأخواله أعمالا. فولّى حسنا القبلةَ من مدينة فاس إلى أغمدات. وولّى داود المشرق من مدينة فاس: مكناسة وهوارة وصديانة. وولّى قاسما غربي فاس: هناتة وكتامة. وتشاغل يحيى عما يحق عليه من سياسة أمره، فملك إخوته أنفسهم واستمالوا القبائل وقالوا لهم: إنما نخشى .. وقد ترون ما صار إليه أخونا يحيى من إضاعة أمره. فقدمهم البربر على أنفسهم تقديما كليا. وكان يحيى منهمكا في الشراب، معجبا بالنساء. وذُكِر أنه دخل يوما الحمّام على امرأة، فتغير عليه أهل فاس (عدوة القرويين)، فكان ذلك سبب هلاكه، فهرب إلى عدوة الأندلس فمات بها ..
وكانت زوجه بنت علي بن عمر (جد الحموديين). ثم ولي علي بن عمر بن إدريس، وذلك، لما هَلك يحيى، أتى صهره على هذا فدخل عدوة القرويين ، و ملكها. وانتقل الأمر عن بني محمد بن إدريس إلى بني عمر بن إدريس.
ثم ثار عليه عبد الرزاق الخارجي الصفري من مديونة، فدارت بين علي وعبدالرزاق حروب كثيرة إلى أن هزمه الخارجي واستولى على فاس، وأمّر على أهل أوربة ، وملك عبدالرزاق عدوة الأندلسيين..
.. ثم ولي يحيى بن إدريس بن عمر بن إدريس بن إدريس. ذلك أنه لما مات يحيى بن القاسم تقدم إلى فاس يحيى بن إدريس وملكها، ورجع الأمر إلى بني عمر بن إدريس 15 سنة، إلى أن قدم مصالة بن حبوس سنة 307 ..
.. ذلك أن، مصالة قدم إلى المغرب في حركته الأولى سنة 305، فابتدأ بالإحسان والإكرام لموسى ابن أبي العافية وقدّمه على ما استولى عليه من بلاد الغرب. وكان يحيى بن إدريس صاحب فاس يُغير عليه (يقصد على موسى) ويَقطع عنه أمله.
فلما رجع مصالة في 307، أقام في الغرب خمسة أعوام. فكان ابن أبي العافية يسعى في الإضرار بيحيى وحنقه عند مصالة ـ لما تقدم بين موسى ومصالة من المودة، وما كان بين موسى و يحيى بن إدريس من العداوة ـ ، فعزم مصالة على القبض على يحيى، فلم يزل يحتال عليه حتى أقبل إلى معسكره، فغدره وقبض عليه، وانتزع ما كان بيده . وأمره بجلب ماله، (وحين) أحضره أخرجه من فاس، وولي فاسَ عاملُ مصالة ..
.. ثم قام حسن بن محمد سنة 315، وهو حسن بن محمد بن القاسم بن إدريس بن إدريس الملقب بالحجام فأوقع بموسى بن أبي العافية .. وقُتل لموسى ولد يسمى منهل، وملك حين هذا فاس وما يليها سنتين، ثم قام عليه أهل فاس و غدروه وقدموا حامد بن حمدان الهمداني..
.. وأرسل إلى ابن أبي العافية .. وأجلى موسى (ابن أبي العافية) بني إدريس، وأراد قتل حسن لأجل ابنه منهل، فدافع حامد عنه، وقيل أخرجه حامد إلى السور فسقط عنه و انكسرت رجله، ووصل إلى عدوة الأندلسيين، فمات بها رحمه لله .. واستولى موسى بن أبي العافية على ملك فاس وبلاد الغرب بعد موت حسن الحجام ..
وأجلى موسى بني إدريس .. (حتى) صاروا في مدينة (تسمى) «حجر النسر» مقهورين، وهو حصن منيع (كان) بناه إبراهيم بن محمد بن القاسم بن إدريس. وعزم موسى على محاصرتهم في هذا الحصن واستئصالهم . فأخذ عليه في ذلك أكابر المغرب ، وقالوا له : قد أجليتهم و أفقرتهم !أ تريد أن تقتل بني إدريس أجمعين ، وأنت رجل من البربر؟ فانكسر عن ذلك ..».