أعتبر أن بلادنا تحظى بنعمة التعددية، وأن من واجبنا جميعا أن نحافظ عليها، ولذلك لا يمكن إلا أن نقر بحق أي اتجاه إيديولوجي في التعبير عن مواقفه، في احترام لباقي الفرقاء، وفي احترام للقوانين الجاري بها العمل
نعتبرإحالة مشروع المدونة على المجلس العلمي الأعلى بمثابة إغلاق لقوس توظيف الدين سلبا من طرف بعض الاتجاهات في تصفية حسابات إيديولوجية مع المختلفين معهم، مع استغلال النقاش العمومي حول المدونة لبث مخاوف داخل المجتمع
بحلول نهاية يوليوز الحالي، يكون قد مر ربع قرن على اعتلاء الملك محمد السادس عرش البلاد، باعتبارك كاتبة وطنية لمنظمة النساء الاتحاديات، ما تقييمك العام لهذه المرحلة في علاقة بحقوق النساء؟
أعتقد أن أغلب المراقبين سواء من داخل المغرب أو خارجه، يقرون بما تحقق في المغرب خلال هذه المرحلة على المستوى الحقوقي، إذ أصبحت الوصفة المغربية على هذا المستوى مرجعية إقليمية في التوفيق بين الثوابت الوطنية وبين الالتزامات الدولية المؤطرة بالمواثيق الكونية لحقوق الإنسان، ولذلك من الطبيعي أن تحقق الحركة النسائية العديد من المكتسبات خلال هذه الحقبة، وهي مكتسبات تمت دسترها، مما يعطيها قيمة معيارية، ويسائل كل المؤسسات بخصوص التزاماتها على مستوى رفع كافة أشكال التمييز ضد النساء، ولذلك لا نبالغ إذا قلنا إن الضمانات الملكية بخصوص التمكين للنساء على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كانت بمثابة الرافعة الأساس لكل ما أنجز على مستوى احترام حقوق النساء.
لكن، هناك كتابات عديدة، خصوصا في الميديا الغربية، تعتبر أن الأنظمة الملكية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تميل عادة للمحافظة، وأن هذا الميل يمثل قيدا على تطوير أوضاع النساء بالمنطقة، ما تعقيبك؟
أعتبر مثل هذا الأقوال هو نوع من التعالي الاستشراقي، وإلا كيف يستقيم أن دولا أوروبية رائدة في الحداثة والمساواة الفعلية بين النساء والرجال، واحترام الحريات الخاصة إلى أبعد حدود هي دول نظامها ملكي، بل إن الأنظمة الملكية الأوروبية على هذا المستوى هي أكثر تطورا من غيرها، من مثل الأنظمة الملكية في البلدان الاسكندنافية، وفي بريطانيا وبلجيكا وهولندا وإسبانيا؟
وفي المغرب أستطيع أن أجزم أن المؤسسة الملكية أكثر تقدما من باقي البنيات سواء المجتمعية أو السياسية، وقد استثمرت خصوصياتها في تدعيم مجال الحقوق والحريات، بدليل أن صفة الملك أميرا للمؤمنين قد تم توظيفها إيجابا لدعم حقوق النساء في مستوياتها المختلفة، المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وذلك من طريق توجيه المؤسسات الرسمية الدينية إلى إنتاج اجتهادات قائمة على روح مقاصد الشريعة عدلا وإنصافا وحرية، باستحضار للتحولات الاجتماعية والثقافية والقيمية، على قاعدة «تغير الأحكام بتغير الأزمان والظروف والسياقات»، وبالتالي فإن التدين المغربي الذي ترعاه مؤسسة إمارة المؤمنين بإشراف مباشر من الملك كانت عاملا مساعدا على تبيئة مجموعة من الحقوق الواردة في الإعلانات الدولية لحقوق الإنسان.
ألا يعني ذلك أن المؤسسة الملكية هي جدار في مواجهة القوى الأصولية والمحافظة التي تتبنى نظرة تحقيرية للمرأة وأدوارها؟ وهذا ما تأكد في خطاباتها أثناء معركة ما سمي الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية.
شخصيا، أعتبر أن بلادنا تحظى بنعمة التعددية، وأن من واجبنا جميعا أن نحافظ عليها، ولذلك لا يمكن إلا أن نقر بحق أي اتجاه إيديولوجي في التعبير عن مواقفه، في احترام لباقي الفرقاء، وفي احترام للقوانين الجاري بها العمل، وفي احترام كذلك لمجموعة من الأعراف والتقاليد المرعية التي تشكل خصوصية الدولة المغربية، وبالتالي فإن أي تعبير لا يجنح نحو العنف والكراهية والتكفير يجب أن يكفل له حقه في التعبير والتنظيم.
ومن هذا المنطلق المبدئي فإني لا أعتبر المؤسسة الملكية جدارا أو حائط صد ضد أي تيار مجتمعي، كيفما كان، ومهما بلغت درجة اختلافنا معه، ما لم يخرج عن الثوابت الوطنية المنصوص عليها دستوريا، ومن هذه الزاوية فإن الملك يظل هو الحكم الأسمى الذي نلجأ له عند احتدام الاختلافات التي تتطلب الحسم.
وبالتالي فإن المؤسسة الملكية هي ضمانة وسند في مواجهة التطرف والإرهاب والتكفير، وفي الآن نفسه فهي حكم بين كل الفرقاء، سواء الحزبيين أو الإيديولوجيين، ومن هنا قوة المؤسسة الملكية، وكذلك الحاجة إليها، باعتبارها في الآن نفسه مؤتمنة على صيانة الحقوق والحريات، كما هي مؤتمنة على الثوابت الهوياتية للبلاد، وعلى رأسها الإسلام بطبيعة الحال.
لكن بالعودة لسياق طرح الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، فإن الاتجاهات المحافظة لم يعد التمييز قائما بين المعتدل منها والمتطرف، بحيث تكتلت كلها ضد حكومة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، وكانت خطاباتها مغالية في التكفير الذي يحمل احتمالات تحوله نحو العنف المادي.
اليوم، بعد مرور سنوات على تلك الأحداث، فنحن نمتلك المسافة الكافية بأن تمنحنا رؤية أكثر موضوعية، وفهما يربط السياق بمقدماته ومآلاته، ولذلك فإني أقدر أن المستهدف لم يكن الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية تحديدا، باعتبار أن النقط الخلافية حولها كانت ضئيلة، فمعظم مواد الخطة لم تكن لها علاقة بمدونة الأحوال الشخصية السابقة، بل كانت معظم المواد لها علاقة بالتمكين الاقتصادي والاجتماعي للنساء، من أجل تمكينهن من الاندماج الإيجابي في برامج التنمية البشرية، موازاة مع برامج عالمية كانت مدعومة من قبل منظمة الأمم المتحدة.
ولذلك فإني أعتقد أن المستهدف كان هو المشروع المجتمعي الذي أعلن عنه الملك، وهو المشروع الحداثي الديموقراطي، والتي أرادت القوى المحافظة بدعم وتحالف من القوى الأصولية والمتطرفة كبحه، أو على الأقل وضع سقف له، دون الوصول للاصطدام المباشر مع المؤسسة الملكية، لعلمهم بقوتها المتأتية من المشروعيات المختلفة التي تحوزها: دينية وتاريخية ودستورية وشعبية.
والمستهدف الثاني كان هو حكومة التناوب التوافقي برئاسة الأستاذ المرحوم عبد الرحمان اليوسفي، والتي كان برنامجها يتوافق مع هذا المشروع المجتمعي الذي دعا الملك لإرسائه، ولذلك كنا صادقين حين كنا نقول بأنه يتم توظيف الدين لأغراض سياسية.
وشخصيا، أعتبر أن افتعال تلك المعركة، وتجييش الأتباع فيها، وتحالف قوى تنافرت بعدها وتفرقت شيعا، كان محاولة فاشلة لدفع المؤسسة الملكية للتراجع عن التزاماتها التحديثية، وخصوصا أن الملك كان في بدايات حكمه، كان الأمر أشبه بطعنة في الظهر. لكن في الوقت نفسه كان بمثابة النقمة التي في طيها نعمة، بفضل حكمة المؤسسة الملكية ونباهة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي.
كيف ذلك؟
بمعنى، أنه يجب أن ننظر للمآلات والنتائج، فمن جهة تمت أجرأة كل البرامج المتضمنة في الخطة، والتي لا علاقة لها مباشرة بالقوانين المرتبطة بالأسرة، بحيث تم إدماجها في مخططات قطاعية مختلفة (الصحة، التعليم، التشغيل، الاقتصاد التضامني،،)، فيما تم لأول مرة في تاريخ المغرب إحداث اختراق كبير في القوانين المنظمة للأسرة عبر مدونة تحققت من خلالها مكتسبات غير مسبوقة وتحديثية في الآن نفسه.
كان بإمكان جلالة الملك أن يكتفي بتجميد الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، وبالتالي نزع فتيل التوترات التي كانت قائمة، والتي بدأت تأخذ منحنيات تقاطبية، لكن حمته رأت أن السياق مناسب لتحديث مدونة الأحوال الشخصية، بما ينصف أساسا النساء، وبما يجعل المصلحة الفضلى للأبناء هي المعيار الأول والمحدد الأساس لما يجب أن تكون عليه الأطر المعيارية المنظمة للعلاقات الأسرية.
ولم يكتف الملك بتعيين لجنة للتفرغ لهذه المهمة، بل أحاطها بتوجيهاته الرامية للإنصاف وإلى جعل اللبنة الأسرية تلعب دورا في تحديث باقي بنيات المجتمع، لقد كانت توجيهات بيداغوجية بأفق استشرافي، وكانت المنهجية التشاركية وسيلة فعالة، لنقل الاختلافات والصراعات من الشارع إلى البنيات المؤسسية، حيث يكون صوت العقل والعقلنة أقوى من قوة الضجيج والتحشيد.
ثم كانت المرحلة النهائية، بحيث لم يكتف الملك بالتصديق على مخرجات عمل اللجنة، وكان الدستور القائم آنذاك يسمح له بذلك، وبأن تخرج المدونة على شكل ظهير ملكي دون المرور على المؤسستين التنفيذية والتشريعية، لكن نظره السديد اقتضى عرض المدونة على البرلمان، وكانت تلك واحدة من المؤشرات الدالة على أن المؤسسة الملكية كانت تمتلك تصورا للتعديلات الدستورية قبل 2011.
هل كنتم راضون آنذاك عن مخرجات عمل اللجنة المكلفة بإخراج مدونة الأسرة، وخصوصا انكم سنوات بعد ذلك شرعتم في المطالبة بإصلاحها؟
لقد عبرنا بوضوح آنذاك عن ارتياحنا للمخرجات العامة التي أفضت إلى إقرار مدونة الأسرة الحالية، وهذا طبعا لم يمنعنا من إبداء ملاحظات على بعض المواد، والذي ثبت لاحقا أن ملاحظاتنا كانت وجيهة.
فمبعث الارتياح، كان متأتيا من الروح العامة التي حكمت التعديلات آنذاك، والتي استندت إلى محاولة التوفيق بين الاجتهادات الدينية التنويرية، وبين المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وهو ما ينسجم مع المشروع المجتمعي الحداثي بصيغته المغربية، والذي لا يعني القطيعة النهائية مع عناصر الهوية التاريخية للمغرب، بقدر ما يعني الانتقال القيمي الهادئ والمتدرج، والذي يجب أن يرافق التحولات المجتمعية، لأنه قد ثبت أن كل المشاريع التحديثية في محيطنا الإقليمي التي كانت مشاريع قسرية مفروضة من الفوق لم تؤتي ثمارها، وأفرزت ممانعة مجتمعية.
ومبعث الارتياح الثاني، هو النهج التشاركي الديموقراطي الذي حكم كل مراحل إنتاجها، بدء من تعيين اللجنة الخاصة إلى المصادقة البرلمانية، مرورا بالموافقة الملكية، وبالتالي فهي ثمرة إشراف ملكي، وقرار سياسي، ومراقبة مجتمعية، وهذا يعني أنه بإمكاننا أن نحول اللحظات الصعبة والمتوترة إلى لحظات للبناء عبر نزع مولدات التوتر، وتعويضها بآليات الإنصات والمشاركة والمرافقة.
أما الملاحظات التي أبديناها آنذاك، فكانت في بعض التفاصيل، من مثل المساحة الكبيرة التي منحت لتأويل القضاة في بعض القضايا المرتبطة بالتعدد وتزويج القاصرات والنفقة، وكنا متخوفات من جنوح التأويلات نحو المحافظة، مما يمكن أن يفرغ المدونة من أهم عنصر من عناصر قوتها، وهو نفسها التحديثي، أو أن تقود هذه التأويلات ضعيفة التقييد إلى إعادة إنتاج أحكام لا تختلف عن تلك التي كانت نتاج تطبيق مدونة الأحوال الشخصية السابقة.
هل تعتبرين أن الدعوة الملكية الأخيرة إلى تعديل المدونة هي نتاج مطالباتكم وملاحظاتكم؟
لا يمكننا ادعاء ذلك، بل نحن في منظمة النساء الاتحاديات واعيات أن المؤسسة الملكية لها من الآليات ما يمكنها من رصد الآثار المترتبة عن تطبيق القوانين والسياسات العمومية، وأنها مؤسسة منفتحة على الجميع، وتنصت للجميع، وخصوصا للفئات التي لا تمتلك قنوات للتعبير عن مطالبها.
ولذلك نحن سعيدات من هذه الناحية، أي من أن ملاحظاتنا ومطالبنا توافقت مع الخلاصات التي توصلت لها المؤسسة الملكية، من أن الممارسة أثبتت أن بعض مواد المدونة إما أصبحت متجاوزة، أو أنها أنتجت أحكاما لا تتوافق مع روحها ومقصديتها العامة.
لكن يجب أن ننتبه، أن الملك لم يحدد المواد التي تتطلب المراجعة، وبالتالي سيكون من باب الادعاء أن يزعم أحد بأن ما يطالب به هو عينه ما يسعى له الملك، فالملك يظل مخلصا لمنهجيته التشاركية ولحسه الديموقراطي.
وبالتالي فإن المكسب الكبير المتحقق في هذه المرحلة، أننا سائرون على طريق إصلاح المدونة بنهج هادئ، ودون توترات في الشارع كما حدث في 2004، وأعتقد جازمة بأن منهجية 2004 هي التي مكنتنا اليوم من هذا العبور السليم، صحيح أن هناك نتوءات وانزياحات في بعض الخطابات، ولكنها لم تتحول إلى توترات في الشارع، وبالتالي ظل النقاش العمومي في مجمله في حدود مقبولة، بينما النقاش داخل المؤسسات تم بعيدا عن أي تأثيرات خارجية، وبالتالي أعتقد أن مخرجات عمل اللجنة، التي ستكتمل برأي المجلس العلمي الأعلى بعد الإحالة الملكية، فيما يخص بعض المواد التي لها تماس حصريا مع بعض الأحكام الدينية المستندة على نصوص قطعية الثبوت والدلالة، ستكون مثمرة وسترضي أغلب الذين رفعوا مذكراتهم أمام اللجنة.
علاقة بالإحالة الملكية وفق الرسالة التي وجهها الملك لرئيس المجلس العلمي الأعلى، ألم تثر هذه الإحالة مخاوف لديكم، خصوصا وأنكم منظمة بنفس حداثي ديموقراطي؟
بالعكس تماما، وقد عبرنا عن ذلك في البيان الذي نشرناه مباشرة بعد الرسالة الملكية، بل كنا أول منظمة تعطي موقفها من الإحالة الملكية.
لنا قراءتنا الخاصة، والمبنية على معطيات وعلى استقراء لكيفيات تعاطي المؤسسة الملكية مع القضايا التي هي مثار اختلافات بين التنظيمات السياسية والجمعوية والحقوقية، أو لنقل الاختلافات بين التيارات الحداثية والأخرى المحافظة.
وهذه القراءة قادتنا إلى استنتاج أن حصر جلالة الملك للمواد موضوع الإحالة على تلك التي لها تماس مباشر مع النصوص الدينية قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، وهي على كل حال قليلة جدا، يعني أن الجزء الأكبر من التعديلات سيتم إخضاعه إلى اعتبار المصلحة الفضلى للأسرة، وإلى إعمال المرجعيتين الدستورية والحقوقية، كما أن تلك المواد موضوع الإحالة، كانت هناك توجيهات واضحة بالذهاب في الاجتهاد إلى حدوده القصوى.
وبالعودة إلى مذكرة منظمة النساء الاتحاديات ستجد أننا لم نلغ المرجعية الإسلامية، بل فقط طالبنا بإعمال آلية المقاصد، ليقيننا أن الإشكال ليس في المرجعية الإسلامية، لا حاضرا ولا ماضيا ولا مستقبلا، بقدر ما هو في التأويلات التي أعطيت لبعض النصوص، وهي التأويلات غير المنسجمة مع روح الإسلام نفسه، المتمم لمكارم الأخلاق والحاض على فضائل العدل والإنصاف والمساواة، وطبعا فإن هذا المنظور هو نفسه الذي ما فتئ يعبر عنه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في مقاربته لموضوع المرجعية الإسلامية، والتي هي واحدة من مصادر التشريع حسب الدستور المغربي.
والخلاصة أننا نعتبر مؤسسة إمارة المؤمنين ضمانا لتسييد التأويل الوسطي المعتدل للنصوص المرجعية الكبرى في الإسلام.
وأكثر من ذلك فإننا نعتبر الإحالة الملكية على المجلس العلمي الأعلى بمثابة إغلاق لقوس توظيف الدين سلبا من طرف بعض الاتجاهات في تصفية حسابات إيديولوجية مع المختلفين معهم، مع استغلال النقاش العمومي حول المدونة لبث مخاوف داخل المجتمع من إمكانية استيراد نموذج غربي للأسرة وفرضه بسلطة القانون، وبالتالي فالإحالة الملكية تتضمن كذلك تطمينا للمجتمع على هذا المستوى.
إذا استثنينا المدونة التي اعتبرتموها ثورة هادئة، ما أبرز المكتسبات المحققة على صعيد حقوق النساء خلال 25 سنة من حكم الملك محمد السادس؟
هي مكتسبات عديدة، ولكني أعتقد أن المصادقة على اتفاقية منع كافة أشكال التمييز ضد النساء، المعروفة اختصارا بسيدياو، تظل أبرز هذه المكتسبات، لماذا؟ لأن هذه الاتفاقية تمت مناهضتها بشكل عنيف من طرف القوى الأصولية، ليس في المغرب فقط، بل في عموم المنطقة العربية والإسلامية، وقد كان هناك تنسيق عابر للدول من أجل ثني حكومات المنطقة عن المصادقة عليها، وهو تنسيق جمع حكومات ومنظمات ومؤسسات وهيئات وشخصيات، وكانت النتيجة هي شيطنة الاتفاقية، واعتبارها شكلا من أشكال محاربة الإسلام، مما جعل مصادقة أي حكومة عليها محفوفا بالمغامرة، رغم أن هذه الاتفاقية لا تتضمن في عمومها ما يتنافى مع قيم العدل والكرامة والمساواة التي دعت لها كل الأديان التوحيدية، وفي مقدمتها الإسلام الحنيف.
صحيح، أن المغرب صادق على الاتفاقية سنة 1993، ولكن بتحفظات كثيرة، ودون نشرها في الجريدة الرسمية، أي أن المصادقة كانت شكلية، وغير ملزمة، وفي السنة الثالثة لحكم الملك محمد السادس، وفي حكومة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي سيم نشر الاتفاقية في الجريدة الرسمية، مع الاحتفاظ بالتحفظات السابقة، وهو على أي حال اختراق مهم، إذ أصبحت المواد غير المتحفظ عليها، وهي كثيرة جزء من القانون الوطني، حتى قبل دستور 2011، وهي السنة التي سيتخذ فيها جلالة الملك موقفا شجاعا على الصعيد الإقليمي، منتصرا فيه لحقوق النساء، حين سيوجه رسالة للوزير الأول السابق عباس اليوسفي برفع كافة أشكال التحفظ على اتفاقية سيدياو، بما في ذلك المادة 16 التي تفيد بالمساواة التامة والفعلية بين النساء والرجال.
وفي سنة 2015 سيدعو الملك ثانية رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران إلى المصادقة على البروتوكول الاختياري الملحق بالاتفاقية، والذي يعني الموافقة على اختصاص اللجنة الأممية الخاصة بالقضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة في تلقي البلاغات والشكايات، سواء من طرف المنظمات غير الحكومية أو من طرف الأشخاص الذاتيين، أو من طرف الضحايا.
وإذا كانت مجموعة من الدول العربية والإسلامية صادقت لاحقا على الاتفاقية، فإن المغرب يظل الوحيد الذي رفع تحفظاته عن كل المواد، بينما احتفظت باقي الدول بتحفظاتها، خصوصا على المادة 16 المتعلقة بالمساواة الشاملة، والمادة الثانية الخاصة بحظر التمييز في الدساتير الوطنية، والمادة السابعة المتعلقة بالحياة السياسية العامة، والمادة التاسعة المرتبطة بقوانين الجنسية، والمادة 15 التي تنص على المساواة أمام القانون، وهي كلها مواد رفع عنها المغرب التحفظ منذ 13 سنة.
هل كان لرفع التحفظات عن مواد من انفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد النساء، والمصادقة على البروتوكول الاختياري الملحق بالاتفاقية تأثيرا على القوانين الوطنية والسياسات العمومية؟
إلى حد بعيد، ويمكن التدليل على ذلك بالقرار الملكي بحق المرأة المغربية المتزوجة من أجنبي في منح الجنسية المغربية لأولادها، والقرار الملكي بتمكين النساء من الاشتغال في مهنة العدول، وهو أمر لم يكن أحد يتوقعه قبل ذلك، وكذلك التوجيه نحو اعتماد مقاربة النوع الاجتماعي في المناهج والمضامين الدراسية.
لكن للأسف، ما نسجل بأسى عميق هو البون المتعاظم بين القرارات الملكية على هذا المستوى وبين السياسات العمومية المنبثقة من المؤسسات المنتخبة، إذ عبرنا مرارا عن قلقنا من التأخر الحاصل على مستوى إقرار المبدأ الدستوري المتعلقة بالمناصفة في الكثير من القطاعات والسياسات، بما في ذلك التعيين في المناصب العليا.
كما أن هناك تباينا حول استثمار هذه المكتسبات الحقوقية بين المجالين الحضري والقروي، وهو أمر تتحمل فيه المسؤولية أساسا الحكومات المتعاقبة، والتي لا نجد لها عذرا، باعتبار أن المنظومة التشريعية تتضمن الكثير من العناصر التي من شأنها التمكين الاقتصادي والاجتماعي للنساء، ولكنها غير مفعلة التفعيل الأمثل.
لا يعني هذا أننا راضون كل الرضى عن المنظومة التشريعية، فكما نسجل التقدم الحاصل فيها، نسجل كذلك نقط قصور نطالب بتجاوزها، وهنا يجب على الفاعل السياسي أن يتحمل مسؤولياته، وألا يستمر في انتظاريته، فالملك أعطى ما يكفي من الإشارات على انحيازه الصريح والمعلن لحقوق النساء، وخصوصا اللواتي يعشن أوضاع الهشاشة والفقر والإقصاء، ولم يكتف بالإشارات الرمزية، بل ترجمها أكثر من مرة على المستويين المعياري القانوني والميداني، على مستويات كثيرة. ويجب أن تتحمل الحكومات والأحزاب والمجالس المنتخبة مسؤولياتها.
* رئيسة المنظمة الاشتراكية للنساء الاتحاديات
عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي
عضو المكتب الوطني للنقابة الوطنية للصحافة المغربية