إن بقاء اللغة، أي لغة مشروط بالتململ، والحراك والدينامية المطلوبة، وعدم الالتفات طويلا إلى الماضي، والبقاء فيه، ونسيان «القداسة» المتوهمة. بقاء اللغة واستمرارها من بقاء أهلها ومتكلميها، ومن دور المؤسسات التعليمية التي صار من اللازم اللازب، على واضعي المناهج والبرامج، التفكير طويلا، والتريث عميقا، قبل تسطير الموضوعات والنصوص، والسجلات السردية المختلفة، ووضعها بين دفتي كتاب. ففي ذلك مقتلها إِنْ لم تُرَاعِ المنجز التربوي الإنساني العام، ولم تُبَالِ بجهود علماء النفس التربوي، وعلماء الاجتماع التربوي، ولم تكترث بشراسة المنافسة اللغوية التي لاَ تَني تَتَعَوْلَم، ولا تني تزحف عبر السينما، وعبر الميديا، وعبر المحطات والقنوات المختلفة، وعبر «اليوتوب»، وباقي المواقع الرقمية. فالتريث يفسر ب: تبسيط قواعد الفصحى، وتجديد سِيبَويْهْ، وإهمال آداب قديمة غارقة في الفصاحة المقعرة، والبلاغة المتصنعة، واللعب العبثي بالألفاظ، والتشقيق اللغوي الرنان كـ»المقامات».
عوض ذلك، ينبغي الانتصار للنصوص السهلة الجميلة المعبرة عن المشاعر الإنسانية العميقة، وعن روح العصر الموار بالقضايا المستجدة، واليومي المعيش، ونواتج التكنولوجيا، وثمرات الثورة الإعلامية والتواصلية.
كما لا ينبغي أن يعزب عن البال، أن للإعلام يدا في دعم اللغة العربية أو هدمها. فما يعرض في التلفزيون من خلال قنواته المتعددة، يجعلنا نضع أيدينا على قلوبنا توجسا من نسف منهجي ذكي يطول حضور الفصحى، ويشكك في نجاعتها وقوتها، وقيامها بالدور الموكول إليها تاريخيا، وهو: حمل الثقافة، والترميز إلى التراث الحضاري العربي- الإسلامي. فالبرامج التي تقدم بالعامية كثيرة، والمسلسلات المدبلجة بالدارجة تملأ السمع والبصر، والندوات التي يستدعى إليها فنانون ومسرحيون، وسياسيون بَلْهَ مفكرون أحيانا، تدار بالعامية في أغلب الحصة المخصصة للندوة. نَعَمْ للعامية المفصحة كما أسلفت، على أن لا تستمر على حساب الفصحى. فبعض المحاور ذات الحمولة الفكرية، والثقافية، والعلمية، والأدبية، لا يمكن طرحها ومناقشتها إلا باللغة العربية لما لها من واعية معرفية، وذخيرة لغوية، ونسق ثقافي يحمل على بسط الأفكار، والقضايا وتحليلها، والحجاج لها أو عليها، وفي نفس الآن، تجريدها.
إن الحكومات العربية مطالبة بالنظر في أمر الإعلام، ومطالبة بإيلاء الأهمية وتسريعها، داخله، للغة العربية. وهي التي صَدَّعَتْنا بالبكاء والنحيب على حال لغة «الأمة العربية» المهددة بالموت والزوال: يَحْدث ذلك في كل المؤتمرات التي يتداعى لها «القوميون» من كل الأمصار العربية، حيث يخلصون في خاتمتها إلى نتف شعر الرأس، و» شق الثياب» غضبا وحنقا على مصير لغة القرآن، والحال أن فلذات أكبادهم يتابعون دراساتهم العليا في الولايات المتحدة الأمريكية، وانجلترا، وكندا، وسويسرا، وألمانيا، وفرنسا.
فهل يعلم هؤلاء وغيرهم أن هجرة العقول العربية تَتْرَى لأنها لم تجد التربة الصالحة، والمناخ الملائم في بلدانها العربية ؟؛ وهل تعلم أن البحث العلمي حاله في بلداننا حال الأيتام في مأدبة اللئام؟. ذلك أن الجامعات التي يفترض فيها أن تكون قاطرة التنمية اللغوية، والتنمية الثقافية، ومنارات الترجمة والتعريب، والنحت والاختراع، أيْ مهد ومصدر التنوير المعرفي والعلمي، لا تقوم بهذا الدور –البتة- على الوجه المطلوب. على العكس من ذلك، فهي بؤر للتحاسد والتباغض العلمي، وموئل للتصفيات السياسية والإيديولوجية، ومَبِيضًا وتفريخا – في الأعوام الأخيرة- للفكر الغيبي، والفكر الظلامي. «إن مقارنة بسيطة بين الدول العربية وإسرائيل في ميدان البحث العلمي، تكشف عن وجود 363 باحثا في العالم العربي تقريبا لكل مليون نسمة، بينما يبلغ عدد الباحثين في إسرائيل 25 ألفا، بمعدل خمسة آلاف باحث لكل مليون نسمة. وتلك أعلى نسبة في العالم بعد اليابان التي وصل فيها المعدل إلى 5100 باحث»، ثم بعد ذلك، نقول من دون أن يَطْرَفَ لنا جفن إننا : «أمة اقرأ»، أمة القرآن»، وبِمُكْنَتنا رَمْي اليهود في البحر. ونردد شعارا عنصريا مضحكاً : (خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد سيعود). فهل جيش الجهل بقادر على هزم جيش العلم والبحث العلمي ؟.
تخلف اللغة العربية من تخلف أهلها، وتَنَطعهم، ومكابرتهم، ودس رؤوسهم في الرمال، حتى لكأن المستشرقين الذين رميناهم بالعنصرية، كانوا على حق لما عزوا التخلف العربي إلى «البنية الذهنية» للعربي، والتي هي بنية حماسية انفعالية، شديدة الغيظ والغضب، لا بنية عقلانية تركيبية !!.
يكاد الإنسان يصدق مثل هذه الدعاوى العنصرية من فرط اليأس، وانسداد الأفق، وضباب الحاضر.
لغة القرآن، نعم، ولكن هذا لا يعطيها حق التقديس والأفضلية على باقي اللغات. ولعل هذا المنظور الديني التعبدي أن يكون وراء تخلفها لأن أصحاب القرار «العروبيين» قعدوا عن نصرتها بالعلم والمعرفة، والتحلل من ربقة الماضي والغيب. وكان الأمر حُسِمَ في قدسيتها وقداستها منذ بواكير الثقافة العربية في أواخر العهد الأموي، وعلى مدار العصرين العباسيَيْنِ. حُسِمَ بإبراز خطل القائلين بالوحي والتوقيفية، وأنها لغة أهل الجنة ! عندما تَصَدَّى لهذه الأعجوبة، أكابر العلماء واللغويين والنحاة كابن جِنّي، وأبي علي الفارسي، وابن خلدون، وابن حزم الأندلسي، وغيرهم كثير، إذ قالوا بالوضع والاتفاق، وأن اللغة اصطلاح ومواضعة، لا توقيف ووحي.
واتكأوا في ذلك على ما وصلهم من أفكار الهنود القدماء الذين تنبهوا إلى أن اللغة منبثقة من محاكاة الأصوات الطبيعية، حينها قرروا أنها من اختراع الإنسان، وقد حثه على اختراعها حاجته إلى الكلام، وأن حركة الجهاز النطقي هي السبب المباشر الذي أدى إلى حدوث الأصوات التي هي عرضة للاختفاء بمجرد النطق بها».
لنعد – الآن- وقد استوفينا الكلام عن إشكالية اللغة فيما نتصور، إلى أزمة التعليم، وهل تنحصر فقط في نوع لغة التدريس الواجب اعتمادها؟. وَهَبْ أن الإجماع الوطني انعقد على وجوب التدريس باللغة العربية الفصحى في كل أطوار التعليم، حتى العالي منه، فهل تتوقف الأزمة، وتنحل العقدة، وينفك الإدغام؟، أم أن الأزمة لها علقة بشبكة عناصر متداخلة ومتعانقة؟. فماذا عن البنية التحتية، في القرى والبوادي، وأحزمة المدن؟. ماذا عن المؤسسات التربوية، هل تستجيب لأدنى شروط التربية من بيئة نظيفة، وفضاء مُغْرٍ جذاب، وحجرات جميلة مريحة، ومدفئات تغزو البرد والصقيع، ومكتبات مدرسية يختلف إليها التلاميذ للقراءة والمتعة والفائدة. ماذا عن الداخليات، والمطاعم المدرسية؟. هل جاهزيتها المادية والخدماتية، تقوم بالمهمة المنوط بها؟، ما مدى وَسَاعَتِها لاحتضان واستيعاب المتمدرسين القادمين من دواوير بعيدة، وأماكن نائية؟.
لماذا لم يحقق برنامج «تيسير» هدفه في الحد من التسرب، والهدر المدرسي، إذ الإحصائيات المتفائلة تتحدث عن نزيف خطير تعرفه بلادنا يصل رقميا إلى ما 400,000 تلميذ وتلميذة، ما يهدد البلاد بجائحة الأمية، وتكاثرها، وبالجريمة غداً حال انسداد أبواب الأمل في وجه هؤلاء. وماذا عن التكوين والتدريب؟ وجاهزية رجال ونساء التعليم للانخراط الحقيقي والمبدئي في العمل على وقف النزيف، والمساهمة في النهوض بالتعليم؟، وهل يملك ذلك من لا يملك إحساسا بالطمأنينة، وشعورا بالرعاية والاحتفاء والمباركة، وتحسين الوضعية المادية؟. أما هؤلاء الذين يتحدثون عن اللغة العامية التي ينبغي أن تعرفها المراحل الأولى من «التمدرس»، كما أسلفنا، هل يدركون أن المعني أساسا بهذا الكلام، وهذه الأمنية «المعلبة» الكامنة، هم المربون والمدرسون؟ هل استفتيناهم فيما يُرَوَّجُ وَيُسَوَّقُ؟ هل اسْتشيروا قبل أن تعقد الندوات والمناظرات، وَأُخِذَ بآرائهم المتخالفة أو المتطابقة؟.
بَدَهِيَّ أن المربيات في التعليم ما قبل المدرسي، يحرصن على تمرير أنشطة لغوية بمعنى من المعاني، وأنشطة ذات صلة بالحسيات والحركات. يقمن بذلك من دون أن يَرْطَنَّ بنحو «سيبويه»، ولغة المتنبي، ولو في درجاتها السفلى القاعدية، بينما هناك أخريات – هُنَّ نتيجة وحاصل تعليم تقليدي عقابي- يعنفن الأطفال عندما يُتَأْتِئُون، أو يخطئون، أو يتباطأون عند قراءة وتهجية الكلمات، ما يجعل الخوف والشرود يسكنهم، وما يؤدي –بالحتم- إلى مغادرة الروض أو المدرسة بعد سنة أو سنتين من ذلك.
وهل يعلم دعاة التدريس بالعامية –أيضا- أن العامية ملازمة لأكثر مراحل دروس الرياضيات والفيزياء والعلوم الطبيعية المعربة؟ كل هذا من عقابيل سياسة التعريب المزاجية والمرتجلة، والتي كرست تمزقًا معرفيا، واستيعابيا وأدائيا للمعارف والمباديء العلمية بخاصة، كان ضحيتها –بالأساس- تلامذتنا الذين ما أن يَسْتَأْنِسُوا بالدروس العلمية، والمعطيات الرياضية وهي تعرض وتقدم لهم بالعربية الفصحى أو بالعامية، حتى ينفطموا عنها، أو يُفْطَمُوا عنوة، وبمنتهى العنف والاقتلاع، ليجدوا أنفسهم في التعليم العالي مع لغة تدريس أخرى لتلك العلوم والرياضيات، ما يخلق شرخا لنفسياتهم، وبلبالا على مستوى لسانهم. هي ذي المفارقة اللغوية القاصمة، وهذا هو المأزق المعرفي الذي لم يستطع أي وزير وصي على القطاع أن يحسم فيه بردم الهوة، والاجتراء على فض المفارقة، إما بتعريب العلوم المختلفة من الثانوي إلى العالي، أو بتدريسها بلغة شكسبير أو موليير.
إنه إشكال لغوي حقيقي، ما يقود إلى القول بأنه إشكال ثقافي وحضاري في البدء والمنتهى. فهل من عزيمة وهِمَّةٍ لفض مغالق الإشكال، ووضع حد للتيه والشرود؟.