رنَّ جرس الشعر الذهبي في السويد، ومن ثَمَّ في ربوع المعمورة: ( البرتقالة الزرقاء وفق تعبير شعري بديع للشاعر الفرنسي بول إيلوار )، حيث تردد صداه، وتناغمت ترجيعاته، وتعالت رنّاته في تتابع مُدَوْزَن عجيب، وتتالٍ مُوَقَّع مهيب. رَنَّ معلنا تتويجه بأثمن التيجان، وأغلى المهور إذِ الحدث يتصل بأٍرفع الجوائز طُرّاً، وأنفذها قيمةً وخلودا، وأبقاها انتشارا وذكراً. إنها جائزة نوبل للآداب التي منحت للشعر، للشاعرة غلوك العام 2020 في خضم الجائحة الكوكبية التي تضرب من دون رحمة، البشر والمال والاجتماع، والثقافة، والعوائد، والسلوكات المقررة المتواضع عليها منذ أزمنة بعيدة حتى صارت مسلماتٍ وبَدَائهَ ثقافية أنطربولوجية، وقواعد عيش يومية معروفة.
ولأمر ما، وبسببٍ وداعٍ لا أعرف له كنهاً، ولم أهتدِ إلى سره، بدا لي أن تتويج الشعر، وتكريم الشعراء في شخص الأمريكية الكبيرة لويز غلوك، مُنْتَوَىً ومتعمد مادام الشعر كان ولا يزال، وسيظل: سيد الكلام، وسَنام اللغة، وعنوان الجمال، ورمز الحب والخير والسلام. لِنَقُلْ إن الوباء سَرَّع بتكريم الشعر، وتبويئه الذروة لجهة نوعيته اللغوية، وأسلوبيته الباذخة، ورمزيته المترفة، وخياله الوسيع المديد الذي يمتد عميقا في طبيعة الوجود، وحسية الموجود، ولغز الكائن والكينونة. فالشعر منذ كان، أيْ منذ صلصال البدايات، وفجر التواريخ والحضارات، تصدى للشرور، لكل انواع الشرور، ولليأس الإنساني، والقلق الأنطولوجي، والتمزق الروحي، واحتفى، سعيدا وطروبا، بالخير والحب والجمال. وأرسل، في ربوع الكون، شجيَّ أنغامه، وحنين ناياته، وهديل أصواته، وجراح أنَّاته ونياحته، وأنين شكواه ونداءاته.
هكذا يكون الشعر، بداهةً، وبالقوة والفعل، ضد الجائحة التي تحلق فوق رؤوسنا وما بيننا، كطائر الموت الأعمى الخرافي اللاَّمرئي الذي دَقَّ شخصه، وتناهى في الخفاء. الجائحة بما هي شر، وبما هي انتقام الطبيعة من الثقافة، وسخرية الخام السوداء من التقني المركب، والعلمي المسلع والمتغطرس. وقد جاء الشعر ليُجَسِّرَ الفجوة / الهوةَ بينهما، ويرأب الصدع، ويجمع الضدين معاً، فإذا هما: طفولة وحضارة، كبْوٌ واستواءٌ. وإذا هما متعة ومنفعة. وإذا هما بعضٌ لبعضٍ خَدَمُ. فالذي يمتع يفيد لا محالةَ، والذي يفيد يمتع بما لا مجال للشك معه، حتى يكتمل الأقنومان، العنصران، المقومان الحياتيان: الطبيعة والثقافة، فيصيرا واحدا، يصيرا أنشودةً إنسانية تخطف، تروم الإمتاع والفائدةَ؛ يصيرا في كلمة واحدة: شعراً.
بهذا التفسير، أبرر المنح العظيم المتمثل في الجائزة التي ذهبت إلى الشعر رأسا، من دون أن تنظر إلى الخلف وتتلكأ، ففي النظر إلى الخلف، وفي التلكؤ: لعنة وندم، وارتباك، وربما افتئات، وانزياح وعدولٌ.
ولم يكن اختيار شعر الشاعرة لويز غلوك، خبطاً أعمى، ولا وليد مصادفة وتواطؤ ما، علما أن التواطؤ لمنح الجوائز، لازمٌ لازبٌ؛ إذ يقتضي الفوزُ حسابَ الأصوات، أو عد الأوراق، أصوات أعضاء لجنة القراءة، وفتق الأوراق المطوية في بعض الأحيان، والاحتكام إلى تواتر اسم بعينه أو عدة أسماء بداخلها. غير أن التواطؤ قد يكون نتيجة مزاجية وهوى، ومحسوبية وإيديولوجيا، وقد يكون جوابا سديدا، وتفاعلا خلاقا مع أهمية العمل الإبداعي البالغة، وقوته البيانية، واللغوية المعرفية. وفي ما يخص شعر الشاعرة غلوك، فناطقٌ بالفصاحة كلها، والنصاعة جميعها، دالٌّ على أدائه الاستعاري العالي المسنود والمعضود بثقافة أنجلو أمريكية عميقة، وهيلينية متجذرة، متكئة على ميثولوجيا يونانية ورومانية، وميثولوجيا شخصية تتصل بسيرتها في تواشج مع أبويها وأفراد أسرتها، وما شابَ هذه السيرة الطويلة الممتدة من آلام وأحلام وتطلعات وتشوفات.
لِنَقُلْ ـ في وَجازَة ـ بأن الشاعرة حدقت اللعبة الشعرية الشوكية العصية، وتوهجت ومهرت في تطويعها، وتنخيلها ما أوصلها إلى البساطة في عمق، والتقشف في اكتناز، والغنائية في مناولة درامية معرفية، والجدة في إحكام، ويسر تصرف في صرامة بناء.
لم أقرأ شعر لويز غلوك القراءة العامرة العارفة والسابرة. فما قرأت لها، في لغتها طبعا، لا يعدو أن يكون نزرا يسيراً لكنه شاهد كافٍ على علو كعبها الشعري، وسموق قامتها الإبداعية، وقوة أدائها اللغوي، ومعرفتها الدقيقة بالمواضيع والموضوعات التي تثير وتلفت، تمتع وتفيد، وتَخِزُ وتُوجِع أيضاً كمعالجتها شعريا للمأساة الإنسانية بثاقب نظر، وعمق معرفة وتجربة. ولعل عملها الشعري: ( زهرة السوسن البرية )، وليس ( إيريس المتوحشة )، كما ترجمه البعض، الحاصل على جائزة البوليتزرْ الأمريكية، وهي من أرقى الجوائز الأدبية كما هو معروف، فضلا عما سبقه وما لحقه من أعمال شعرية باسقة، وفتوحات إبداعية بهية، لعله يترجم رُسوخية ولوْذَعية وريادة ، وينهض دليلا ساطعا، وعَلَماً على رأسه نارٌ، لجهة طرافته وجدته وجماله، ورمزيته البديعة، وخياله الفاتن المثير، فهو يمنح للأزهار فرصة الكلام بشكل رمزي فائق العذوبة والعمق من خلال مونولوجات قصيرة منقوعة في ماء الميتافيزيقا، والأسئلة الفلسفية الوجودية الحارقة.
إن تكريم الشاعرة لويز غلوك بأعلى وأرفع الجوائز طرَّاً على المستوى العالمي، إنما هو، كما أسلفت، تكريم للشعر في كل أصقاع الدنيا بلغاته المختلفة والغنية التي تثري الوجود الجمالي للإنسان في الكون، وتضفي على إقامته في الأرض، النجاعة والجدارة، والمعنى الذي فيه يحيا، والاستعارة التي بها يعيش.
إشـــــارات:
ــ زهرة السوسن هي زهرة رائعة ذات لون أزرق داكن تنمو من بصيلة تَسْبُتُ طوال فصل الشتاء. وقد اتخذتها السلطة الفلسطينية شعارا وطنيا لها. يتعلق الأمر بزهرة سوسن نادرة زرقاء داكنة لا تنبت ، فيما يقال، إلا في فلسطين. « سوسن فقوعة «.
ــ أكاد ألمس أثراً من شعر الشاعرات العظيمات في شعر لويز، شعر مواطنتيْها: إيميلي ديكنسن، وسيلفيا بلاثْ، وشعر الحائزة على نوبل العام 1996، البولندية: فيسوافاشيمبورسكا.
ــ لقد قال الشاعر الإيرلندي العظيم، الحائز على نوبل أيضا في العام 1995، شيموس هيني: « إن جائزة نوبل هي بمثابة صاعقة تنطلق من سماء صافية باتجاه شخص مختار. وأنَّ توقع أي كان بأن الجائزة هي من نصيبه، هو محض جنون «.
هامش مستجد:
ــ رحلت الشاعرة الأمريكية الكبيرة لويز غلوك، عن دنيانا يوم الجمعة 13 أكتوبر الجاري 2023، عن عمر ناهز الثمانين « ربيعا «. لنقلْ: ربيعا، لأن الشعراء لا يشيخون، ولا تسري عليهم عوامل الزمان والفناء. وكيف يشيخ من ندب قلبه وجوارحه وعقله للإبداع والفن، لطفولة الإنسانية؟. ألاَ يظل طفلا لاهياً وإِنْ تألم وتوجع، ورأى الجرائم والخطايا تَتْرَى وتذرع الأمكنة والأزمنة، وأشباه الإنسان؟
أصداء أصوات غافية ..الشاعرة الأمريكية لويز غلوك، والتتويج المستحق
الكاتب : محمد بودويك
بتاريخ : 27/10/2023