بينهما الواقع الإنساني والحيواني، والنباتي والفيزيائي. بينهما الكائن في جملته، والمكنون في لَمّته. لذاك الواقع خُلِقا وابتكرا وانبجسا، وطفقا يعملان ويشتغلان بالتجربة والخبرة والمشاهدة والملاحظة والملاحقة والعقل. وبالخيال أولا وأخيراً. فالعمل والاشتغال إياهما، ينبعان من سعي الإنسان الأديب والإنسان العالم إلى تبديل وجه ما يدبان فوقه، وما يكتنفهما فيه من غبار ونار، واستغلال ما تحته من شرار ونُضَار، وتخييل ما لا يُرى طمعا وطموحا في أن يُرى في المدى المنظور أو في المدى المتوسط والبعيد.
الأدب بمختلف أجناسه وأنواعه، وتعبيراته، ولغاته، ينهض بالمعاينة المباشِرة آناً، وبالاستبار آناً آخرَ، لِما يجري ويدور في الكون، وما يعتمل فيه ظاهراً وباطناً عبر وسيلة الرؤية والنظر والمباشرة. وينهض ثانياً بالغوص بعيدا في الأشياء بذاتها ولذاتها، وعبرها مخترقا السُّجُفَ المرئية التي تُضَبِّبُ الرؤيةَ، وتُغَبِّش النظر باستنفار الحواس جميعها، والحدس كله بالمعنى « البرْغْسوني «، وبالرؤيا التي تنبني وتتشيد، على رِسْلِها، إلى حين بلوغ المرتقى البعيد الذي يُخَوِّلُ للأديب: التأمل والتخييل والاستبصار، ويتيح له المشي السعيد على الدرب الملكي في أفق التجميل والتجليل، بما يعني فرملة الوحش فينا، وكبح همجيته، وإسباغ الرغبة المتأبية بعد تطويعها على الالتذاذ بالعيش في الحياة، واستساغة الإقامة فيها، والإقبال على ما به يصبح الآدمي آدمياً، حيوانا عاقلا راقياً يلتذ وينتشي بالدنيا.. بسحرها، وأطيافها، وألوانها، وبدائعها، ونفائسهما المدسوسة والمخفية، والظاهرة البادية. وهو الشيء الذي يَعْسُر بل يستحيل على الحيوان ذي الأربع، والطيور ذوات الجناح، والبرمائيات والقشريات والفقريات، ودقيق الحشرات، يستحيل عليها تحصيله أو تنشقه، أو استرواحه، أو استدراج رونقه وعذوبته، ولذاذاته.
فالأديب والفنان، شاعرا كان أو موسيقيا، أو قاصا أو روائيا، أو تشكيليا، أو مسرحيا، أو نحاتا ـ واسطةٌ بين الإنسان ومعاشه الروحي والمعنوي، وتوسطٌ بينه وبين ما يضفي على وجوده وكينونته، النجاعة واستحقاق العيش والحياة. إنه واسطةٌ بما تعنيه الوساطةُ والواسطة من تقريب ودعوة، وإنباء، وإخبار، وشفاعة. لذلك، يُعَدُّ الخيال الذي هو عُدَّة وعَتاد، وزوَّادة المبدعين، مُلْهِما، ومجالا خصبا، ومَلَكَة عظيمة لتجميل الحياة، وقبسا نورانيا لإغنائها وإخصابها، وتوليد ألوانها وسيلة لزركشة المعيش اليومي، مأْتى لإشباع الرغبة، واعتلاء سنام العشق المتكثر الذي يصب في المجاري كلها، والروافد جميعها.
ولئن كان دأب المبدع هو تشغيل الخيال، وشحذ الحواس، والاستعانة بالحدس لبلوغ أبعد الغايات، وأقصى المرام، مرام الجمال والجلال، ونَزْرٌ من « الكمال»؛ فالعالم ، وإنْ بدا أنه يفارق الأديب، وعلمه ينأى عن الأدب جملة وتفصيلا، فإنه خدينُه وصنوه في نهاية المطاف، بل في أول خطو على درب إعمال العقل والتأمل، وممارسة التجربة فيزيائيا، ورياضيا، وجيولوجيا، وهندسيا، على أشياء الكون، وكائناته طُرّاً. ثم، وهذا هو الأهم، لا بد له من ركوب عربة الخيال النورانية التي تجرها جياد أسطورية، والجنوح إلى الطيران والتحليق. فقد أعلى العالم الفيزيائي العظيم « ألبرت إنشتاينْ « من دور ووظيفة الخيال في إتيان الخارق، والوصول إلى المعجز والقصي من الأشياء. إذْ من دون خيال، وحلم يقظة، ينثني العالِم مهزوما، ويصير العلم أضغاثا ومحصلات ضحلة وفقيرة. يقول إنشتاينْ: (الخيال هو حافز كل تقدم، ومنشيء أي تطور. المعرفة محدودة، والخيال لا حدود له.).
إن هذا يعني في ما يعنيه، أن الفتوحات العلمية والاجتراحات التكنولوجية، والاختراعات والاكتشافات الطبية والجغرافية، والهندسة . الخ، ليست، في النهاية، سوى نتائج من نتائج الخيال وقد اكتسى لحما وعظما ودما وعَصًباً، أيْ: تَشَخْصَنَ. فهو السابق وهي اللواحقُ. وتفسير ذلك ـ بكل بساطة ـ أن الإقلاع العلمي في ميدان من الميادين، ومضمار من المضامير، لا يحدث إلا بعد تخطيط وتأمل وتفكير، واستنفار لمعظم القدرات والمَلَكَات والمؤهلات الدماغية الخفية، وفي مقدمتها: التخييل. ذلك أن النجار لا يصنع مائدة بأربعة أرجل أو بثلاثة أو بثمانية، أو دولاب وأبواب ويزركشها بالأختام والأقواس، والأزهار، والتشجير المعشق، إلا بعد أن ينجز ذلك في خياله، ويمخضه في باله بالتأني والتدبير، ويرسمه على الورق، ويعدل طرفا بعد أن يسقط آخر حتى تستقيم له الأمور، فيشرع حينئذ في النجارة والصقل والنشارة وصولا إلى مبتغاه، ومبتغى زبونِه. وقسْ هذا المثل المدرسي على مجمل الصنائع والأعمال اليدوية، والحِرَف المختلفة: خزفية كانت أو طينية أو نحاسية أو فضية أو ذهبية، سيوفا أو رماحا أو أدرعا، وصواني ومراجل وأباريق، وهلُمَّ أمثلة حية.
وهكذا ـ بقليل من المقارنة المتعسفة ـ يتحقق مطلب العالِم في مختبره و» حقله المغناطيسي «، وبغيته في الاختراع والابتكار. إنه ينطلق من تصميم عقلي سوَّاهُ الخيال، وشحذته مَلَكَةُ الذكاء والتحويل والتركيب، ونهضت به الخبرة الطويلة، والمقارنة الدائمة، والبحث الدؤوب، والإحداث والمحو تلو المحو إلى أن يستقر على الأنموذج المبتغى، والرسم المطلوب، والختم المحلوم به، والمخترع المتوخى. وآنئذ فقط، يبدأ في ما ينبغي البدء به ومنه: الإحداث والتصويب والتعديل، والتجريب والمقارنة.
ثمةَ ما يجعل الخيال سيداً كونيا، ودافعا وجوديا وروحيا، مُسْعِفا للإنسان في بحثه عما يُعْلي الإنسان، أي في بحثه عما يحبب له العيش، ونسج العلائق مع الغير تحت فضاء مشترك مُغْرٍ وجذاب، في جغرافيات وأمكنة مواتية تليق بإقامته فيها، مُكَرَّماً مُنَعَّما يستسيغ العيش والرّغد والرّفَهَ والاستجمام، والتوالد إبقاءً للحياة على الحياة، وإعمالا لاستمرارها. وفي كل حقبة وزمن، يأتي من يدبر أمر الكرة الأرضية، منطلقاً من جهود واجتهاد أسلافه الأدباء والعلماء، باحثا عما يُجاوزهم ويتخطاهم بكد الذهن وشحذ الخيال والحدس، ومواصلة التأمل والتجريب، والخلق والابتكار لتكومن إقامة الإنسان الجديد أفضل وأرحم وأسوغ من إقامة شبيهه القديم وَفْقاً لناموس التطور، ومتطلبات روح العصر الحديث، يستوي في إقامة ذلك البناء والتجديد والتحديث، العالم كما الأديب: الأخوان الشريكان في الخيال، وفيروس المغامرة والتجريب، هذا في المختبر والحقل المغناطيسي، وذاك في برية الطبيعة وأرض الله الواسعة، وفسحة السماء والفضاء.
إن الكون فسيح وشاسع بشكل لاَمتناهٍ، وعظيم بكل مافي الكلمة من معنى، عظيم بما لا يقاس. يحتضن اللون والجمال والجلال والكمال. إلا أنها عناصرُ ومقوماتٌ وموتيفاتٌ نائمةٌ كامنة تُرَى وتُنْظَر حَسْبُ. وحَسْبُك بالعلم والأدب بوابتين عريضتين واسعتين، وحافزين روحيين لإنطاق تلك العناصر، وتسميع موسيقاها، والأنغام العُلْوية التي فيها، واستثارة سحرها، وتوصيف ألوانها، وإنزالها رويدا.. رويدا عبر متواليات الأزمنة والعصور، إلى الأرض ليستمتع بها الإنسان، ويستحلي إقامتها في الأرض التي وجد نفسه فيها.
وإذاً، كيف كان سيكون الكونُ لولا الأدب شعرا ومسرحا وموسيقى وملحمة ورواية وفكرا ومعرفة، ولولا العلم رياضيات وفيزياء وكيمياء، وطبا وهندسة، ومعماراً، وفلكا، وتنجيما، وملاحة، وتكنولوجيا، ورقميات.؟
كيف كان سيكون؟