أصداء أصوات غافية .. بُــلـَـنْــدْ الــحَــيـْـدَري إلى ذكرى : الشاعر والأمين محمد بنعيسى

أيُّ نَحْسٍ أَمْسك بتلابيب الشاعر بلند الحيدري، ولا يزال يتبعه ويمسك به؟. أي ظلم فادح حاق بتجربته الشعرية كإحدى التجارب الشعرية الحديثة والمعاصرة، والتي شكلت ـ بطريقتها الخاصة، وبأسلوبها المتفرد ـ لبنة مكينة في دارة التجديد والتجريب، والتحديث؟.
لمَ لَمْ يُلْحَقْ بمجايليه الشعراء الرواد، وهم تعييناً: بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وعبد الوهاب البياتي، بالرغم من شَدْوِه الهامس، ولغته المصفاة، وحضوره الشعري اللافت و» السجالي « المحتشم ـ أيامئذ ـ أيام كان وطيس التجربة الشعرية حاميا، والدفاع عنها ضد أعداء الحداثة، وخصوم الجديد، محموما ومحتدما؟
هل نَرُدُّ النحسَ إياه، والظلم المذكور إلى « كرديته «؟، وهل تكون القومية في تجسدها الهوياتي والإثني، والعرقي، والسلالي واللغوي، والثقافي المتجذر، هل تكون لعنة، وسُبّة، وتنقيصا من صاحبها، وحاملها، والمدموغ بها، ورافعها، والناطق بها، أو المستفيد من خلفيتها، ومظانها، ومصادرها يمتح منها، ويغترف ليخصب لغته العربية التي يكتب بها، ويعطيها أبعادا معرفية وجمالية هي في حاجة إليها ضمن إطار ما يسمى بالهوية المنفتحة، المتحركة، والمركبة؟. أم هل يكون لفرادة صنيعه الكتابي النوعي، يدٌ في إبعاده واستبعاده، وإشاحة الأشياع والأتباع من النقاد عن تجربته؟، إذْ لا خِلافَ في أن تجربة الرواد الشعرية في الخمسينات من القرن الماضي، تدور مجتمعة ومختلفة، حول مشترك لغوي ومعرفي وأسطوري، وتراثي، وحداثي، قوامه: التكثيف والتطويل، وعماده: التخييل داخل الصور الذهنية غالبا، والصور المرئية نادراً، وأُسُّه: الإيقاع والموسيقى بالمعنَيَيْنِ: العروضي والدلالي المتحرك ضمن متواليات من الأداء الموازي والمتكرر، واتكاء على القناع بما هو مسافة مما يحدث ويمور به الواقع، وبما هو تقية وتعبير إدانة للواقع العربي المشطوب والمشوه.
وفي هذا، كان بُلَندْ مختلفا لأن تجربته الشعرية نسجتْ مع اللغة المشذبة والمهذبة، علاقةً فيها شَخْصَنَة وتفرُّد، وواحديّة، ما يعني أنها اعتمدت التقشف اللغوي كدال على فيض شعور متحكم فيه، ودفق إحساس، وعميق أسى، ودفين غربة واغتراب عاناها الشاعر في نفسه، وفي وطنه الذي نفاه، وإزاء المطلق.
ولعل ثقافتَه التشكيليةَ العميقةَ، أن تكون وراء ضرْبات فُرْشاتِه الحبرية التي لَوَّنت بالرماد والسواد، تجربة كتابية مخصوصة، وأغدقت عليها من ماء الجمال ما به سمقت وتفردت، وأضحت نسيج وحدها ضمن اشتراطات الزمن المذكور، زمن الريادة، مِما وَسَمَها بالاختلاف الفعلي، ودَمغَها بالظلم حين كابدت كما كابد صاحبها مرارة الإشاحة والجحود.
إن وَلَعَ بلند بالموسيقى والتشكيل، والأسطورة العراقية المحلية، تَمَرْأَى وتجلى في بناء نصوصه الشعرية، منذ «خفقة طين»، و»رحلة الحروف الصفر» ، و»حوار عبر الأبعاد الثلاثة»، الذي زاوج فيه، باقتدار، بين الغنائية، والدرامية، وغيرها من الأعمال الشعرية المؤسسة. برز ذلك في احتفال الشاعر بالفراغات، والألوان، وتوزيع الجمل الشعرية القصيرة، وهندسة الصفحة. كما تميزت نصوصه بالأناقة والرهافة، واللوعة، والنياحة الهامسة، والأوجاع المختنقة. ويكفي أن يرد الاعتبارَ لتجربته الشعرية، شعراءُ أفذاذٌ كالسياب، وسعدي يوسف، وجبرا إبراهيم جبرا، وأنْسي الحاج، وعباس بيضونْ، وقاسم حداد، ومحمد السرغيني، وصلاح ستيتية، فضلا عن الناقد جابر عصفور، والروائي الطيب صالح، وآخرين.
وإذا كان لي من إضافة في الأخير، فهي أن بلند الحيدري أَرهَصَ، من خلال ما كتب، وحرصه على أن يكون ما كتبه، إضافيا، نوعيا، جديدا، مشذبا ومهذبا، يعبر بدال قصير عن مدلول كثيفوعميم، أرْهَص مع سعدي يوسف، ومحمود الْبريكانْ، وصلاح عبد الصبور، لقصيدة النثر العربية، من دون أن يكتب نصا واحدا منثورا، لأنه كان شغوفا بالإيقاع بالمعنيين: الضيق المتمثل في التفاعيل العروضية، والوسيع الذي تقوله حركة القصيدة بكاملها، وتقتضيه بواطن اللاشعور الدفينة، واعتمالات الأحاسيس الضاجة والهادئة، الظاهرة والخفية.

******

كلمة لا بد منها:

أكبرتُ ـ دائما ـ في أصيلة الأصيلة، من خلال مؤسسة « منتدى أصيلة « في شخص أمينها العام، المثقف العميق محمد بنعيسى ـ هذه الالتفاتة الكريمة، وهذا الصنيع النبيل، وذاك الاعتراف المتمدن الراقي، بقامة شعرية عربية رائدة، هي قامة بلند الحيدري، عبر حمل جائزة الشعراء العرب الشباب لاسمه، وعبر إقامة نصب تذكاري له بالمدينة حيث تطل روحه وشعره على السكان والعمران، على البحر الصاخب والهادئ، وعلى سحر المكان، سحر أصيلة التي عشقها هو وزوجه الراحلة الفنانة التشكيلية والنحاتة دلال المفتي.
إنه تذكير بالشاعر العراقي بلند الحيدري الذي تصر مدونة النقد الحديث والمعاصر، على إهماله وتغييبه. فتحية لأصيلة، وتحية لصنيع الأمين العام النبيل والحفيل، وانحناءة أمام روحه الطاهرة، وروح الشاعر الكردي العراقي العربي الكبير: بُلَنْدْ.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 09/05/2025