من بيّنات وتجليات عسر الكتابة واستعصائها على الكاتب والمبدع، ذلك البياض المُعْشي والصمت الرهيب اللذان يُصيبانِهما ويَلُفّانِهما لحظة الجلوس إلى الطاولة بغية الكتابة. حينها، تهرب اللغة، وتنمحي أوليات وملامح الموضوع، أي تنهض معضلة البداية كأقسى ما يكون، وينقفل باب الولوج إلى المطلوب بغتةً، فإذا الأديب والمبدع والفنان والموسيقي، منحبسٌ مأسورٌ لا حول له ولا شيطان يُجَمِّشُ قلمه أو فرشاته أو إزميله أو نوطته ليشرع في السيلان والانسياب والرسم، وانبثاق النغمة من رحم الغيب، وتشكل الميسم والأمارة والتقاطيع واللمحات. كل المشكلة تقع مع السطر الأول، الجملة البدئية، في كيفية إتيانها وصياغتها، وتشييد ما سيأتي وينبني عل أكتافها وضوئها. أغلبنا يذكر ويستذكر الجملة الأولى التي شَقَّت بياض الصفحة معلنةً عبثية الموضوعة السردية التي باشر « ألبير كامو « صوغها حتى استوت رواية انعطافية أليمة ولذيذة في آن. إنها رواية « الغريب» من دون شك، التي رددنا ونحن تلامذة الطور الثانوي التأهيلي، جملتها الغريبة ذات الدلالة العبثية الباردة والبوهيمية: ( اليوم، ماتت أمي، أو ربما، البارحة. لست أدري. ). وعلى منواله، بل قبله بالتأكيد، فعل آخرون: روائيون « منعوتون « فرنسيا وإنجليزيا وأمريكيا وإفريقيا، وعربيا، « بسملوا» طويلا.. طويلا، قبل أن يستعينوا ب « سمسم» لفتح المغارة. وابتهلوا كثيراً لآلهة الفنون والآداب والموسيقا، لتأخذ بأيديهم، وتُبَوْصِلَ أقلامهم وهم يرتجفون كالذبالة في مهب الريح، لتوقيع ميلاد الجملة الأولى ( الميلاد بعد المخاض، هنا قَرينُ الولادة الفعلية لولادة الأنثى الماخض ).
ألمْ يُعَانِ شعراؤنا الأماجد خلال الأعصر الفائتات، من مشكلة توقيع الجملة الأولى، البيت الشعري الأول عند غياب الجنية الزائرة، وإسعاف « عبقر « لهم وهم في صدد حَلْب ضَرْع اللغة، واستقطار حليبها ليدر عليهم الدرر، ويبسط ـ من ثمةَ ـ على مسعاهم فوزاً ونَعْماءَ وغِنىً يرفعهم فيُصَنَّفوا في عِداد الفطاحل والخناذيذ والمُفْلقين والشعراء، لا في عداد الشعارير والمقلدين الخائبين والمنطفئين؟ لقد تمرغ جرير شاعر النقائض الفحل، كثيرا عند مفتتح كل قصيدة من قصائده الدامغة، ورَغا وأزبد كالجمل الممسوس. وكان كلما تقدم في إملاء « دوامغه» على الحسين راويته، يخبو جنونه رويدا.. رويدا. وقد يجيئه الفتح بغتةً وهو يَنْظُمُ ويُرْغي وسط القصيدة، فيصيح مغتبطا محبورا كطفل: : والله لقد أصبته. هو ذا البيت الذي سيصيب الراعي النميري وقبيلته في مقتل «. سمَّاها جرير « الدَّمّاغة «، و» الدهقانة «، وسمى قافيتها: « المنصورة. أما البيت، فهو: فَغُضَّ الطرفَ إنك من نُمَيْرٍ فلا كعباً بلغتَ ولا كِلابا
ومثل ذلك ، يقال عن خصمه العتيد الفرزدق شاعر مُضَرَ الذي أُثِرَ عنه ما معناه: إن كتابة بيت من الشعر لهو أقسى وأمَرُّ عليَّ من نزع ضرس من الأضراس. على ما في النزع من اقتلاع وألم. فهو يهون حيال نظم بيت من الشعر. إذ كيف يكون؟ وكيف يبدأ؟ ومتى يأتي؟، وهل يكون طاعنا قاتلا يكفيه استراحة شهر في الأقل يخلد فيه إلى نفسه وأهله وصيده وعشيقاته؟
وهو ما عاناه الشاعر الشاهق أبو تمام، ساهراً، مُسَهَّدا، أَرِقاً، محموماً من أجل أن يأتي بما لم تأت به الأوائل كما عبر العظيم أبو العلاء المعري. دخل أحد مقربيه إلى بيته، فوجده يتقلب يمينا وشمالا كأن به مسّاً أو حُمّى. فلما سأله ما به، أجابه: « أتدري ما كنت فيه؟، قول أبي نواس: ( كالدهر فيه شراسة ولَيَانُ ). أردتُ معناه فشَمَسَ عليَّ حتى أمكن الله منه، فصنعتُ: شَرِسْتَ بل لِنْتَ بل قانيتَ ذاك بذا ///// فأنت لا شك فيك السهل والجبلُ فانظرْ كيف أن المبدعين الكبار المأخوذين بالمبدعين أمثالهم السابقين أو المجايلين، يتقلبون على جُنُبِهمْ، على جمر الغَضا من أجل أن يأتوا بما أتاه أندادهم، أو يجاوزوهم في ذلك فراسخ « ضوئية «.فالشعر قُفْلٌ أوله مفتاحه، والفائز الرابح من يُجوِّد ابتداءَه، ويُجَمِّلُ استهلاله. فإنه أول ما يقرع السمع، وبه يُسْتَدَلُّ على ما عنده. ولم يكن القدامى بِدْعاً في المجال إياه، إذِ المسألة إنسانية ونفسية وإبداعية وأنطولوجية وميتافيزيقية، عاناها وكابدها ولا يزال يعانيها ويكابدها المبدعون الأفذاذ: شعراء وروائيون وموسيقيون وتشكيليون بطبيعة الحال. وها هو الشاعر محمود درويش يقول في ( أثر الفراشة ـ ص 234 ): « السطر الأول هِبَةُ الغيب للموهبة. السطر الثاني لا يوهبُ، بل يُصنع بكفاءة ترويض اللامرئي… إذا اهتديتَ إلى السطر الثاني في متاهة الممكن، عرفتَ الطريقَ المُعَبَّد إلى موعد مع المستحيل. « مثلما يؤكد الحيرة نفسها، والقلق إِنْ لم يكن اليأس الساحق عينه، الشاعر أدونيس: « ربما يعرف كل منا أو معظمنا لحظاتٍ لا يقدر فيها أن يكتب أو أن يقرأ أو أن يقوم بأي عمل مثمر. شخصيا، أواجه كثيراً مثل هذه اللحظات، وهي تجيء مشحونةً بالضجر حينا، وحينا بالأسئلة التي لا أجد أي جواب لأيٍّ منها. وهي، إذاً، لحظاتٌ ثقيلة بطيئة كأنها سيرٌ في الرمل. « ( فضاء لغبار الطلع ـ مجلة دبي الثقافية / 2010 ).
إنه عين ما جرى ويجري عند إزماع اختيار العنوان للعمل الإبداعي. فالحيرة والصداع يصبحان سيدتيْ الموقف. ينتهي الشاعر أو الكاتب أو الفنان من عمله، ويصطدم بغتةً بغياب الدليل على البيت، بغياب العنوان. فالشاعر سعدي يوسف يَخِيبُ في الاختيار إلا في ما ندر. وأدونيس يمخض الصورة مخضا حتى يحط طائره على فَنَن عنوان خَضِلٍ ذي أثر وتأثير. أما درويش فيستشير أصدقاءه الخُلَّص لدعمه ومساعدته على الاختيار. نَمَّ لي بذلك الصديق الناقد صبحي حديدي، فهو من اختار بعض عناوين مجاميع الشاعر الشعرية، فضلا عن الناقد الصحفي رياض الريس، والروائي الكبير الراحل إلياس خوري، والصديق الشاعر الراحل أمجد ناصر. مغربيا، يمكن ذكر الشاعر الكبير أحمد المجاطي. فالقصائد التي كان يقرأ في المحافل والأماسي الشعرية، طال بعض التعديل عناوينها: بعضها لا كلها، عندما نشر عمله البديع المُحَكَّك والتدشيني غنائيا وجماليا: ( الفروسية ). بل، إن عنوان المجموعة الذي استقر على ملفوظ « الفروسية «، إنما تحول عن العنوان الأول: « الخمارة « لأسباب « دينية» وميتافيزيقية. والحال أن العنوان المتروك أليقُ بالعمل الشعري من العنوان الحالِّ.وإذاً، النص ينظر وينتظر، والمبدع مُمزَّقٌ موزع هائمٌ على وجهه لا يَحيرُ عنواناً. والعنوان يخضع ـ كما لا نختلف ـ لاستراتيجية معينة ومحكمة وفق بندول الفكرة والتيمة الذاهبة الآيبة في النص، ووفق تِرْمومِتْر اشتعال وتنامي الدلالة والمعنى. فله وظيفة إغرائية، وظيفةُ جذْبٍ وشَدٍّ وحَثٍّ واستمالة ومُراودة للمتلقي ليدخل رحاب البهاء والجمال. علماً أن بعض العناوين تكون مُنْبَتَّةَ الصلة تماماً بالمتن الإبداعي الذي تفترض استعلاءه والتدليل عليه. ختاما واستطراداً، أود أن أشير إلى الشاعر بودلير الذي عانى مكتئباً من اصطفاء عنوان بديع لمجموعة نصوصه الثمانية عشرةَ التي صرنا نعرفها تحت مسمَّى: « أزهار الشر «. عَنْوَنَها، في البداية، ب « السحاقيات «، ثم ب « الأرواح التائهة «، أو « الإقامة البرزخية «. ثم عدَلَ عن العنونة الأخيرة حين اكتشف أنه مسبوق إليها. لكن، في العام 1855، زاره طائر السعد داخل مقهى في باريس عندما اقترح عليه زميله الكاتب الصحفي « إيبوليتباربن « (أزهار الشر ) عنوانا لمجموعته الشعرية. طار بودلير فرحا وانتشاء، وكتب إلى أمه عبارة موجزة بليغة يخبرها بالفتح المبين: ( هذا الكتاب الذي عنوانه: «أزهار الشر»، يقول كل شيء ). وإذا عرفنا حرص بودلير على اختيار العناوين ذات المبنى والمعنى الجماليين، التي تمارس الإغراء على المتلقي، تلك العناوين التي كان يسميها: العناوين « الفرقعة، عرفنا كيف نجح في أن يُحْدِثَ ارتعاشا لذيذا في الشعر الفرنسي، بحسب شهادة الكبير: فكتور هيغو.
أصداء أصوات غافية. .عسر الكتابة ومعضلة البدايات المغلقة ( 2 )

الكاتب : محمد بودويك
بتاريخ : 06/12/2024