أصداء أصوات غافية .. ما العملُ، وقد تشابَهَ علينا البقرُ، وهَيْمَنَ العَوَرُ؟

يقول عبد الكريم غلاب في كتابه « الشيخوخة الظالمة»، واصفا بؤس المشهد الغنائي المغربي ـ ولا تزال الحال هي الحال: ( أصوات مبحوحة اختنقت حناجرها بالدخان والخمر، وربما الحشيش، أنغام؟ ولا نغم. ولكنه زعيق على قدر ما تسمح به الحناجر الملتهبة، وكأن بعضهم من بقايا أهل الكهف يعودون بالإنسان إلى بدائيته، كما لو أن لعنة الغناء قد مسختهم، وجمهور من المراهقات والمراهقين يصيح في جذب «وجداني» يحركه الجنس ـ ربما ـ أكثر مما يحركه النغم. يتجول قادة هذا الفن بين عواصم صاخبة لتأصيل فن التهريج بديلا عما أبدعه عباقرة الموسيقى وهم يخاطبون النفس والروح والقلب والعقل ).
رأي غلاب في الفن الغنائي المغربي الجديد « المعولم»، و»المشرمل»، هو عين ما أرى وما يرى كبار المتذوقة ( نساء ورجالا ) ذوو الآذان الموسيقية المرهفة التي تخشى الأذى، ذوو الحس الفني الرفيع، والإحساس البديع، والروح السامية النظيفة المحلقة. هذا رأينا في مشهد غنائي مقزز يبعث على القيء والنفور، و»الحوقلة «. مشهد محسوب على الفن والغناء وما هو بفن ولا غناء، إنما هو زعيق و» نهيق «، وتفاهة وانحطاط. وأعلم أن للتفاهة نظامَها، لها مؤسساتها، ولها « قوانينها « وداعموها ومسوّقوها، والمنتفعون من دَخْلِها وريعها. لها أزلامٌ ينفخون من أرواحهم الزَّنِخة، وأنفاسهم العطنة، وضمائرهم المعطلة، فيها ـ صباح مساءَ ـ لكي تستمر وتهيمن وتتسيد، وتطيح بالجميل والمفيد والرفيع والبديع. تطيح بكل ما سعى الإنسان إلى بنائه وتشييده، وما سعى إلى إقامته في أفق استمراء إقامته واستساغتها، واستحلاء وجوده، واستحقاق آدميته واستخلافه بما هو سيد ومبتكر، ومطوّع للمحيط وما فوق الأرض وما تحتها لتخدمه، وتقيم أَوَدَهُ، وترفعه وتزكي مروره وعبوره القصير في الكون، لكنه عبور طويل مديد عريضٌ وسيعٌ لأنه يندرج في سَلْسال الوراثة والإرث والتمكين، والاستمرارية الجينية، و» التدبير الأبدي «، بما يعني التدوير الواجب العارف المطور للشبيه والمخالف.
وفي هذا، ما يُزْري بالتفاهة والخفة والمصادرة، والخلط بين ما هو تِبْر وما هو تراب. وبين ما هو ألَقٌ يلتمع في العتمة في العتمة وينشر الضوء فيها، وما هو رَهَقٌ وصفاقة وتعالم، يُفْضي، ـ وقد أفضى ـ إلى « تخمير» العجينة الكبرى التي تدخل الأمعاء فتبارك البطنة، وتُذْهب الفطنة.
فهل ما نسمع من لَغَطٍ ولغو وصراخ وزعيق، يحسبه أصحابه فنا وغناء وشجواً، ونحسبه اجتراءً وتطاولا وعدوانا على الفن والغناء والذوق الإنساني الرفيع؟ هل له ما يكبحه ومن يفرمل طغيانه وهجماته التلفزية التي لا تنتهي، ويحد من فوضاه وعمَاهُ، وأثره المشين الذي يحمل معه داءً إلى الروح، وقذىً إلى السمع والعين، وجرحا غائراً إلى الطبلة الأذنية، والعضلة القلبية، والجوارح كلها؟
للعيطة الشعبية المغربية البديعة، أهلُها وأسيادها نساء ورجالاً، المتمكنون من طبوعها ومقاماتها وأوزانها، يوصلونها بحذق ومِراس ومعرفة، إلى الجيل الجديد. وللفرق الغنائية ذات الصيت، تاريخها ومكانتها. لها أهلها ومغنوها الذي أمتعوا وكتبوا مضامينها وموضوعاتها في سِفْرِ الغدو والرواح،.. الحفظ والترداد، والحب والانتشاء، فإذا هي كما العيوط منقوشة موشومة ومرقوشة على ألواح القلب والعقل والفؤاد، وإذا هي على كل لسان نهتز لها كلما سمعناها أو مرت بالبال.
وللأغنية العصرية، كتابها المبدعون: الشعراء الغنائيون، وملحنوها الموسيقيون الأفذاذ العارفون بالموازين والميازين والطبوع والمقامات والأنغام. ولها مطربوها ومطرباتها ذوو الأصوات الشجية العذبة، والأصوات الرخيمة ذات الشدو المائي والنبيذي الذي يدخل القلب من دون استئذان لأنها حازت على ما به عَلَتْ واعتلتْ، وسَمُقَتْ ففرّجتْ الكرب، وأسكرت من دون ماء الكرم، وعصير العنب.
هؤلاءِ وَأولئك هم من ينبغي أن يسودوا فينشروا العذوبة والجمال والخير والمحبة والسلام. لأن الفن والغناء في مقدمته، ليس بفن وما ينبغي له أن يتسمى بذلك ما لم يكن داعيا إلى السلام الروحي، ومحرضا على التَّحاب الإنساني والتواد، ونشر ألوية الأخوة والمساواة بين الناس، وتفتيح العيون على الجمال بمختلف تجلياته ومشخصاته، وإلاَّ، فإن التفاهة والضحالةَ والابتذال والتسطيح، سيأتي على ما بقي فينا من روح مثالية وقيم جمالية، ومبادئ سامية نؤمن بها، ونحيا لها ومن أجلها خصوصا في وقت ـ وتلك سنة الحياة ومنطقها، وفورة العقل الإنساني ـ أصبح الحديث فيه لا يهدأ عن تنّين الذكاء الاصطناعي الذي يملأ الأندية والموائد، والمؤتمرات والمهرجانات، و» السيمينيرات»، ويستخدم استخداما في ما يجب وفي ما لا يجب: في إلحاق أكبر الأذى والشر بالإنسان ( دليلنا على ذلك: الحرب المجنونة على غزة وجنوب لبنان، واليمن، وإيران ). وفي جلب أكثر الخير للإنسان. ولكن أين، وكيف، ومتى، وهل يتعلق الأمر بإنسان الجنوب أو إنسان الشمال؟. ثم، أَلاَ يكون الذكاء الاصطناعي وجهاً جديداً دقيق الخفاء، للاستعمار العلمي والتكنولوجي والفكري، ويداً تفرض نمطا واحدا متكثرا متكرراً، على النظر والبصر والتفكير، والتدبير، والعلاقات الإنسانية؟. هذا عن المعيش اليومي، عن الحاصل المتحصَّل من الحاجي والضروري والكمالي. فما قولنا عن الغناء والفن والموسيقى والإبداع شعرا وقصا، ومسرحا وتشكيلا؟، أنصبح ونُمسي أداة في يده، يد الذكاء الاصطناعي، نحن الروبوات ولو بأرواحنا، وهو الآمِرُ الناهي المؤدب القائد، والسالك بخطانا أدغال الحياة الجديدة المعقدة؟. وإِلاَمَ يستمر المجهود الفكري والمعرفي، أقصد: كتابة البحوث والدراسات والأطاريح التربوية والعلمية الجامعية من لدن بني الإنسان، بينما يتناهى إلى أسماعنا وأبصارنا، أن رجالا أو نساءً: أشباحا، جِنّاً لا يُرى يدعون ب» اللوغاريتميات» و» البرمجيات «، هي من يكتب الأبحاث، ويفكر في الأطاريح، ويعرض الآراء عرضاً منهجيا إنسانيا وميكانيكيا؟
الأفق ـ سيداتي، سادتي ـ أَسْحَمُ مُثْقَلٌ بالغربان التي تملأُ صفحة السماء لونا غُدافيا، ونعيبا منكراً، وزعيقا مؤْذيا. قلت. الغربان لأنها الأذكى بين الطيور طُرَّاً. وعليه، فإن الذكاء الاصطناعي غرابٌ مُطَوَّرٌ تطويراً ليس في مُكْنتي وصفَهُ أنا الإنسان الضعيف الذي بلا حول أمام جبروته؟


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 06/06/2025