لنترك فيروس كورونا في أجهزة المختبرات بين أيدي المختصين، ولنتوقَّف عن الاستماع لأخبار وأرقام وصوَّر القنوات التلفزيونية المواظبة على ملاحقة ضحايا الفيروس في المستشفيات والمصحات، ولنقاوم رغبتنا في معرفة أحوال الناس في الحجر الصحي، وحكاياتهم المتشابهة داخل بيوتهم.. ولنتجه بدل كل ما ذكرنا، إلى معاينة الفيروس وآثاره في الفضاءات الرقمية، حيث صَنَع حدث الوباء شبكةً من المعطيات المختلفة عن أعلب ما يجري في الواقع، وأصبح كل من يلج مواقع كورونا في الشبكة العنكبوتية، يجد نفسه أمام وقائع وحكايات وأفعال مسلية، أفعال ساخرة وأخرى ماكرة وثالثة ساحرة.
لا أريد التحدث عن المواقع التي تلخص الجائحة في الصراع الدائر بين الصين وأمريكا وإيران، ولا في المواقع التي لم يتردد أصحابها في الحديث عن دور الجائحة في إنهاء القوة الأوروبية والأمريكية، قوة الغرب وجبروته وعدم تمكُّنه رغم غناه وجشعه، من توفير الشروط الضرورية للتطبيب والعلاج داخل مجتمعاته. فهذه السرديات تحضر وتختفي باستمرار في عالمنا، وخاصة زمن الكوارث الطبيعية والحروب والأوبئة.. إن أهم ما يشدني اليوم في مدونات الجائحة ورسومها ومروياتها المصوَّرة، هو ما تتداوله وتتقاسمه الوسائط الاجتماعية من حكايات عن بداية نهاية العالم. ولأنني لا أتصوَّر بداية النهاية بدون بداية جديدة، فقد شدَّني إلى موضوع النهاية – البداية البعد الدرامي المجسِّد لقسماتها، حيث سيتاح للبشر اليوم أو غداً، معاينة النهاية بكل مقتضياتها والمشاركة في طقوسها وأجوائها، وسيكون من حظ الأحياء والأموات، انتظار الموعد الذي يقترب لإنهاء عالم وإطلاق بداية عالم جديد..
لا يقوم المنخرطون في بناء سردية النهاية بتقديم تفاصيل تتعلق بكيفيات حصولها، فهم يكتفون بالتبشير ببداية النهاية ويستدلون على ذلك بمظاهر الفوضى والهلع، التي تَعُمُّ العالم اليوم وتساهم الجائحة في عملية التعجيل بحصولها، إلا أنهم لا يوضحون الكيفيات التي ستحصل بها، وذلك رغم أن بعض المرويات تشير إلى اقتراب موعد حرب عالمية ثالثة، تكون بمثابة الضربة القاضية المعجّلة بحصولها، لما سيترتب عن الجائحة من مشاكل اقتصادية وبيئية ينتظر حصولها من جرّاء استفحال الوباء، وعجز المختبرات والبنيات التحية المرتبطة بالتطبيب والعلاج عن إيجاد المخارج المناسبة.
تُزهق كورونا أرواح من تصيب من البشر، والإنذار حَصَلَ وأصبحت كل علامات الأفولِ بادية بقليل أو كثير من التدرُّج، والجميع يتابع مشهد النهاية التي تجري أمامه دون أن يستطيع لها دفعاً.. لكن لا أحد يعرف متى تحصل النهاية الفعلية، ويتوقف البشر عن التنفس والكلام والخوف والنوم، لا أحد يعرف هل نحن فعلاً أمام بداية النهاية أم أمام نهايتها.. أقول هذا لأن الحديث عن النهاية يتم في سياقات مماثلة، ثم ينسى الناس ذلك، إلى أن يبرز ما يشير إلى كوارث مشابِهة لكورونا، فيتجدد الحديث عن النهاية..
لا أدري كيف اقتنعت بعمليات التحويل التي نقلت الجائحة من موضوع يتعلق بوباء يهم العالم أجمع، وباء تُبْذَل جهود متنوعة من أجل مواجهته والتغلب عليه، بحكم أنه يتعلق بحادث مألوف في التاريخ القديم والمعاصر، إلى حدث تنتجه فضاءات التواصل الافتراضي ثم تعيد إنتاجه بطريقة أخرى، حيث ينحرف عن مجراه ويصبح حكاية ثم حكايات لا حدود لها.. حكايات تخيف أحياناً بشكل يفوق خوفنا من الفيروس الذي يعطِّل التنفس..
انخرطت في متابعة المواقع الرقمية التي ابتعدت عن الوباء، لتتخذه مَطِيَّةً تضعنا انطلاقاً منه على حافة نهاية العالم. وبين ليلة وضحاها، بدأت أُعِدُّ الخطط المناسبة للمشاركة في أمر لا يحصل دائماً، أي الوقوف أما عالم يتوارى ليُفسح المجال لعالم آخر، وهذا الأمر وحده كافٍ للقيام بالحجر الصِّحِّي الذي يمهد للقيامة..
صحيح أن الروايات المتداولة في الشبكات لا تقدم كثيراً من التفاصيل، وأن مروياتها لا تتجاوز بعض الحكايات المألوفة في الموروث الديني المحفوظ في الآداب القديمة، إلا أنني استطبت ما يُرْوَى وراقني فيها المساحات الفارغة في المحكيات، أقصد بذلك كيفيات حصول النهاية ثم مصير الناجين من هول ما حصل، أي مصير البشر الذين لن يلحقهم سوء من الجائحة، عدا أنهم كانوا لحظة تحققها مجرد شهود يتأملون واقعة لا تتكرر دائماً.. راقني في المرويات ما سكتت عنه، حيث يمكنني أن أقوم بتتميم ما ورد فيها ناقصاً..
واصلت متابعة مستجدات سردية الكورونا ونهاية العالم، فتبينت أن الذين يقدمون في الأيام الأخيرة تفاصيل أكثر عنها، يحرصون على إبراز طابعها العقابي، وذلك بتسليط الضوء على صوَّر ابتعاد المجتمعات المعاصرة عن روح القيم التي ترعى التضامن والعدل والأخوة داخل عالمنا، حيث ينتصر البشر اليوم لكثير من القيم التي أبعدتهم عن كل ما هو إنساني، وقد ذهب بعضهم إلى ربط ما جرى ويجري بمآزق التحديث والتنوير، متناسياً كل مآثر ومنجزات عالمنا.. إلا أن هذه المواقف مجتمعة كشفت جوانب مما تخفيه سردية النهاية، حيث تحولت بعض التدوينات إلى أحاديث في التبشير بيوم الميعاد.. وقد انتابني نفور وقلق من المدونات التي تلعن الحاضر بمختلف مزاياه.. وتهرب من الجائحة وسياقاتها وأسئلتها لتصنع العجائب..
وبحكم أن سحر سردية نهاية العالم يرتبط في ذهني ووجداني بغموضها، فقد تخليت عن العناية بالمواقف التكرارية التي ترتبط في هذه المرويات العقابية بالحشر وعذابات الآخرة، ووجهت عنايتي نحو الأحاديث التي تربط النهاية بالبداية، حيث يظل أمامي مرة أخرى متسع من الفراغ القابل للملء بما يبدو لي أقرب إلى النهاية – البداية، الأمر الذي يسمح لي بالقول بأن نهاية عالمنا تضعنا أمام تباشير جديدة تنقلنا بدورها إلى عالم جديد، عالم سيشهد البعض منا اللحظات الأولى لانبثاقه وهم يعاينون أجواء النهاية، فنصبح في الأخير أمام بداية نهاية عالم وبداية البدايات في عالم جديد..
أكثر من كورونا.. أقل من كورونا..
الكاتب : كمال عبد اللطيف
بتاريخ : 08/04/2020