يحصر هابرماس إمكانات تشكل الرأي العام المؤثر في السياسة التي تنهجها الدولة، في مدخلين:
•الأول تمثله فئة متنورة تمتلك امكانات النقاش العقلاني وتتوفر على الشروط المادية، التي تتيح لها ذلك. إنها عبارة عن فئة صغيرة مؤهلة بفضل ذكاءها وأخلاقها إلى احترام مبدأ العمومية ، تستعمل عقلها داخل فئة كبيرة ينتظر منها تزكية القرارت المتخذة . “فالمجال العمومي البورجوازي يمكن أن نفهمه، بالدرجة الأولى، على أنه تجمع لفئة خاصة من الناس على شكل جمهور ، تطالب بمجال مقنن ومنظم من قبل السلطة ، ليوجهونه مباشرة ، ضد السلطة نفسها ، حتى يتسنى لهم مناقشتها حول القواعد العامة للتبادل ، حول ميدان تبادل البضائع والعمل الاجتماعي. و هو مجال يظل خاصا، بالأساس، لكن أهميته أصبحت ذات طبيعة عمومية. إنه مدخل يؤمن بفكرة جوهرية تكشف عن صعوبة تشكيل رأي عام اعتمادا على العامة فقط ، لأن أفكارها سطحية وبسيطة وتنم عن وجهة نظر عفوية مألوفة ، مثل تلك التي تروج لها وسائل الإعلام.
• والثاني تمثله فئة شعبية واسعة يتشكل لديها رأي عام استنادا إلى مؤسسات مثل الأحزاب السياسية والبرلمان.ويتخذ الرأي العام هنا طابعا مؤسساتيا أكثر منه عقلانيا ، فإذا كان الرأي العام ضمن الفئة الأولى يتخذ من النقاش العقلاني اساسا لبنائه ، فإنه في الفئة الثانية يتخذ من معيار الأغلبية أساسا لذلك. فعن طريق النقاش البرلماني تستوعب الحكومة مطالب الرأي العام وتدرس امكانات مراعاتها. إنه مدخل شكل تصورا عن رأي عام يستبعد العقلانية لصالح الوسائط المؤسساتية ، التي بإمكانها التعبير عن توجهات الرأي من خلال البرلمان مثلا الذي يختزل الارادة الجماعية، ويفصح عن انشغالات الرأي العام، أو الأحزاب السياسية سواء كانت حاكمة أو معارضة ، حيث تترجم ارادة الأحزاب، إرادة المواطنين الذي صوتوا لصالح الحزب واقتنعوا ببرنامجه، وبالتالي فمن يمتلك الأغلبية البرلمانية يصبح الممثل الأكبر للرأي العام.
من هذا المنطلق يخلص هابرماس إلى نقطة في غاية الأهمية، تكشف عن هشاشة المدخلين معا ، حيث أوضح أن الإرادة الشعبية لا تقوى على التعبير عن إرادتها وبالتالي رأيها دون اللجوء إلى وسيط ، ومن ثمة تتقلص أدوارها السياسية وتتراجع أهميتها نتيجة اعتمادها المستمر على عنصر خارجي يحل محلها، ليصبح الرأي العام، رأيا للوسيط بالدرجة الأولى، فيستحكم بالتالي بآليات الفعل السياسي. لقد انتقلت الوظيفة التي كان من المفترض أن تسند إلى الشعب، إلى مؤسسات أخرى، فالأحزاب السياسية والجمعيات والنقابات والمدارس ووسائل الإعلام تابعة للدولة وموجهة من قبلها، بل إن الدولة تدمج هذه المؤسسات في إيديولوجيتها وتجعل منها آليات لضبط توازناتها السلطوية، لذلك نجدها توظف المدرسة ووسائل الإعلام ودور العبادة لجذب جمهور مستكين يقبل قراراتها دون اخضاعها لمحك النقد والعقل، فتحول المجال العمومي مع بروز هذه الوسائط من ميدان يحرص على مقاومة سلطة الدولة عن طريق الاستعمال العمومي للاستدلال العقلي، إلى ميدان يحافظ على سيطرة الدولة ويهيئ لها الظروف والشروط التي تستحكم في رأي غير عام.
أدى هذا الوضع الجديد الذي أصبح يطبع المجال العمومي، إلى نشوء صراع بين القوى المكونة للمجال العمومي، حيث ظهرت آراء متحررة ترفض وتقاوم ما هو متعارف عليه ، وتنتقد إرادات الدمج والاستيعاب، وأخرى خاضعة لأساليب الدمج و معترف بها من قبل مؤسسات الدولة وخاضعة للآليات السيطرة.
لا يمكن حسب هابرماس إذن أن نضفي صفة العمومية publicité على مفهوم الرأي ، دون أن نشيد أسسه ولبناته على المناقشة والاستدلال والنقد العمومي ، وهي مناقشة لا مفر منها ما دام المجال العمومي يتكون من قوى متنازعة ومتصارعة ، ومن ثمة يصبح تبادل الأفكار أمرا بديهيا من أجل تحقيق الإجماع ، وبالتالي تكوين رأي عام يعبر عن كل مكونات المجال العمومي. وعلى الدولة حتى تتمكن من اضفاء المشروعية على سياستها أن تمررها عبر قنوات الجمال العام لتصل إلى كل مكوناته بشكل متساوي على اختلافها وتصارعها، وأن تتخذ موقعا محايدا اتجاه هذا الصراع، يضمن نوع من السجال العقلاني العمومي تشارك فيه كل فئات المجال العمومي ، لأن هذه الأخيرة أصبحت تشكل في الدولة الديمقراطية الحديثة ، مصدر الشرعية القانونية ، لقد أصبح الرأي العام معيارا اساسيا لقياس مدى امتثال الحكومات الديمقراطية لإرادة شعوبها. إن “(اعتبار) نتيجة مستخلصة رأيا عاما يعكس حقيقة أن المجال العام لا يمكن أن يوجد إلا إذا تم تخيله بصفته مجالا عاما. وما لم ينظر المشاركون إلى المناقشات المتفرقة باعتبارها متصلة ضمن تبادل كبير واحد للرأي، فما من معنى لاعتبار ثمرتها رأيا عاما. لا يعني هذا التخيل كلي القدرة. فثمة شروط موضوعية: شرط داخلي، كأن تكون بين المناقشات المحلية المجزأة حالات متبادلة مثلا، وخارجي بمعنى أنه يجب أن توجد مواد مطبوعة متداولة لدى كثرة من المصادر المستقلة حتى يتوفر اساس ما يمكن اعتباره مناقشة عامة. و كما يقال غالبا، فإن المجال العام الحديث معتمد على (رأسمالية الطباعة) في اشتغاله واستمراره. لكن الطباعة نفسها، مثلما يبين وارنر، بل حتى رأسمالية الطباعة، لم توفر الشرط الكافي. كان لابد من أن يكون ذلك ضمن السياق الثقافي الصحيح حيث يمكن أن تنشأ تفاهمات مشتركة أساسية. كان المجال العام طفرة في المتخيل الاجتماعي وكانت هذه الطفرة حاسمة الاهمية لتطور المجتمع الحديث. وكانت أيضا خطوة مهمة في المسار الطويل.”
بهذا المعنى يصبح الرأي العام معيارا نقيس به مدى التزام الحكومات أخلاقيا اتجاه شعوبها، فالحكومات الديمقراطية مطالبة ببلورة التشريعات وتطبيق الأحكام ضمن وسط يشكله جمهور يفكر ويعمل عقله في النظر للأمور التي تخص شؤونه العامة، “وفي عملية اتخاذ القرارات ، على البرلمان والمحكمة معا التركيز على ما نتج عن الجدال المستنير بين الناس، وعلى إنفاده . ومن هذا ينبثق ما يدعوه وارنر، مقتديا بهابرماس ، باسم(مبدأ المراقبة)، الذي يلح على أن تكون مجريات أعمال الهيئات الحاكمة علنية ، مفتوحة أمام تدقيق المواطنين المهتمين. ومن خلال هذه العلنية، يستنير الرأي العام بالمدلولات التشريعية، ويتيح لها بأن تكون عقلانية إلى الحد الأقصى، ويضعها تحت ضغطه في الوقت عينه، ما يعني الإقرار بأن على التشريع أن ينحني في النهاية أمام التكليف الواضح الذي يمنحه هذا الرأي .”
يمكن أن نموقع الرأي العام انطلاقا من هذا التصور خارج دائرة السياسة ، فهو لا يمارس السلطة السياسية، رغم أن السلطة مطالبة بالإصغاء إليه، ومن هذا الموقع فهو منفصل كل الانفصال عن المنطق الحزبي وتداعياته. على أن الأنظمة الديمقراطية من بين واجباتها الأساسية أن تتيح إمكانات مراقبتها من قبل تدقيقات خارجية ذات أسس عقلية بالضرورة في استقلال عن أي سلطة أو مرجع تقليدي سواء كان دينيا وطبيعيا ، وذلك لن يتم إلا بالاعتماد على مجال عام منظم ، يدفع بكل مكوناته نحو بلورة تصور مشترك من غير توسط المجال السياسي، ضمن خطاب عقلي خارج السلطة ، وهذا ما يعبر عنه هابرماس من خلال مقولته الشهيرة: “إن السلطة يجب أن تروض بالعقل(الحقيقة لا تفرض تأثيرها على القانون). ف “من شأن مناقشة غير رسمية أن تعرف خارج مجال السلطة على الرغم من أنها يمكن أن تصل إلى قرار كبير الاهمية. وهو يستعرض بعض الصور من المجامع أو المجالس القديمة(كان هذا بارزا في الحالة الأمريكية خصوصا) من أجل إظهار الجمهور كله على هيئة فضاء واحد للمناقشة. لكنه ، وكما يبين وارنر ،يجدد في ما يتعلق بهذا النموذج. فمنينخرطون في الأمر يشبهون متحدثين أمام مجمع أو مجلس. لكنهم، خلافا لنموذجهم في المجامع القديمة الحقيقية، يبذلون كل جهد للوصول إلى نوع من نزع الصفة الشخصية، ونوع من الحياد، والابتعاد عن الروح الحزبية. فهم يبذلون الجهد من أجل نفي خصوصيتهم حتى يرتفعوا فوق (أي نظرة خاصة أو جزئية). وهذا ما يدعوه وارنر باسم (مبدأ النفي). ونحن نستطيع رؤية هذا المبدأ لا باعتباره مناسبا للمادة المطبوعة فحسب، خلافا للكلمة المنطوقة، بل باعتباره أيضا يمنح تعبيرا لهذه السمة المهمة من سمات المجال العام الجديد، بوصفه خارج السياسة، وبوصفه خطابا للتفكير في السلطة وليس خطابها هي ذاتها.”
أما عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، فقط ذهب أبعد بكثير من هابرماس، حين شكك في وجود مقولة أسمها الرأي العام من الأساس، وذلك في مقالة له بعنوان “الرأي العام غير موجود”، حيث عزم على تفكيك ثلاث أسئلة جوهرية، لا يمكننا حسبه أن نتقدم في بلورة نقاش حول الرأي العام دون الحسم فيها. وهي:
•هل كل الناس بمقدورهم تشكيل رأي؟
•هل كل الآراء متساوية من حيث القيمة؟
• هل طرح السؤال نفسه على جميع الناس، يعني أن هناك إجماع حول الأسئلة التي تستحق الطرح؟ وأن الناس يعانون نفس المشاكل التي تعالجها الأسئلة؟
لا يمكن إلا لجاحد حسب بيير بورديو، أن ينكر أن عملية استطلاع الآراء تنطلق من أسئلة متحيزة، على أن الإجابة تأتي متضمنة في الشكل الذي يتم به طرح السؤال، فإذا ما اجتزنا على سبيل المثال الخاصية الاساسية لبناء استمارة،”التي تلتزم ببسط كل الحظوظ الممكنة، لكل الأجوبة الممكنة، فإنه يتم تجاهل خيارات أجوبة وأسئلة ممكنة ذات علاقة بالأسئلة والأجوبة المقترحة، أو يتم اقتراح الخيارات عينها مرات عديدة بصيغ متعددة .”
وستتضح لنا مسألة التحيز والإدماج اللتان يقوم عليهما الرأي العام، بشكل جلي، إذا ما علمنا أن القضايا التي تتكفل بها مؤسسات متخصصة في عملية سبر الآراء تفرض عليها بشكل قوي ، نتيجة ارتباط هذه الآراء بالسيطرة التي يفرضها الطلب الاجتماعي، إذ لا يمكن مثلا لمؤسسة ما أن تتبنى قضية التعليم إلا إذا كانت هذه الأخيرة تشكل مشكلا سياسيا، هذا ما أدى ببير بورديو إلى القول بأن “عمليات سبر الآراء في الوقت الحالي أداة للعمل السياسي “، وبأن الوظيفة الأساسية التي وجدت من أجلها هي ترسيخ وهم زائف يروج لوجود مقولة اسمها الرأي العام ، يعبر بشكل موضوعي عن مختلف أراء الأفراد. بل إن ما تروج له وسائل الإعلام من نسب مئوية (ستون بالمئة من الفرنسيين يؤيدون كذا أو كذا) لا تعدو أن تكون فقاعة مصطنعة ، تتغيا بالدرجة الأولى التستر عن طريق هذه النسب المئوية. “معلوم أن كل ممارسة للقوة ، تحمل معها خطاب يسعى إلى إضفاء الشرعية على من يمارس هذه القوة، بل يمكن أن نقر أن خصوصية كل ميزان قوى كيفما كان، تتجلى في كونه لا يمتلك هذه القوة بشكل مطلق، اللهم إذا ما ظهر على ذلك الشكل، وخلاصة القول، حتى نتكلم بوضوح، فرجل السياسة هو من يقول “إن الله معنا”، ويقابل هذا القول في أيامنا هذه “الرأي العام معنا”. هو ذا الاثر الجوهري الذي ينتج عن عملية سبر الآراء: تشكيل فكرة تنطلق من كون أن الرأي العام موجود وهناك إجماع حوله، الغاية إذن، إضفاء شرعية حولة سياسة معينة، ودعم موازين القوى التي تشكلها أو تتيح لها إمكانات الوجود.”
تنطلق معاهد سبر الآراء حسب بيير بورديو من فكرة واهمة، مفادها أن كل الناس بإمكانهم بلورة رأي، وأن بمقدورهم الإجابة عن الأسئلة بشكل ملائم و متساوي ، وتركيب وإدراك طابعها السياسي ، جاهلة بذلك أن الناس ينتجون آرائهم في ارتباط وثيق وعميق بروح طبقاتهم ، أو بمنظومة القيم الضمنية التي ترعرعوا داخلها ، والتي ترسخت في لاوعيهم منذ الطفولة. يمكن لعملية سبر الآراء أن تكون أكثر ملامسة للواقع، “إذا ما أتحنا للناس المسوغات التي تجعلهم يتموقعون، بنفس الكيفية التي يتموقعون بها في الواقع اليومي ، بمعنى عوض أن نقول لهم :” هناك من يؤيد تحديد النسل ، ومن يعارضه ، فماذا عنكم ؟…”، نعرض مسلسل من المواقف الصريحة، لجماعات تتوفر على قدرة بناء الآراء و نشرها. بشكل يتيح للناس إمكانية التموقع، حسب الإجابات المشكلة مسبقا .”
وفي الختام نوجز و نقول أن تشكيل رأي سياسي، لدى عامة الناس، ليس بالأمر اليسير أو المتاح كما يروج لذلك مستثمرو الرأي العام ، وهذا راجع لإيمانهم بتصور واهم ، مفاده أن كل مواطن قادر على فهم المشهد الإيديولوجي للقضايا والولاءات السياسية، وبالتالي فهو قادر على تشكيل موقف معقول، وتأسيس سلوك سياسي انطلاقا من قائمة المعلومات التي يتوفر عليها ازاء القضايا السياسية الرئيسة، إذا كان هذا التصور الذي يروج له مستثمرو الرأي العام له ما يفنّده في الواقع الاجتماعي والسياسي اليومي لمواطنين مستنيرين ينتمون إلى مجتمعات قطعت أشواط كبرى في مسيرة إحقاق الديمقراطية ، فماذا يمكن أن نقول عن مجتمعات مثل التي ننتمي إليها ، حيث الأمية ، و الجهل مقدسا كان أو مؤسسا يرخيان بظلالهما على جل الأفراد حتى لا أقول المواطنين؟