بعد أن جرب “الموت مدى الحياة”، ودخل “دائرة المستحيلات” وعاش “تمزقات” شخصياته كـ”حالات معتادة جدا” في “كازابلانكا”، وبعد أن أتعبنا بالبحث حين صدقناه يوم قال “هنا طاح الريال”، يعود اليوم إلى مراتع الطفولة يغترف من خوابي الذاكرة وجرابات النسيان ما يلقِم الروح العطشى إلى طوباوية ولت، كانت فيها الأحلام أوسع والأفق أضيق.. يعود إلى الحي المحمدي مسقط الرأس والهوى.. يعود بـ ومع “أولاد الكاريان” إلى حكايات النضال والحب والحلم والمصائر التي تنكتب بالفرح والألم في تاريخ مغربين: مغرب الاستعمار ومغرب ما بعد الاستقلال، انطلاقا من حي يمثل الهامش، لكنه الهامش الذي ينتعش ويتغذى منه المركز.
“أنا واحد من أولاد الكاريان، فقير من البروليتاريا، عاشق للكتابة والسينما “..هكذا لخص الروائي والقاص والمترجم محمد صوف ملامح سيرته ومساره في الحياة وفي الكتابة، أول أمس السبت 14 يونيو 2025، في لقاء احتفى بروايته “أولاد الكاريان” نظمته مجلة “الرؤى العربية للإبداع والنقد” بالمكتبة الوسائطية، التابعة لمسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء، وشارك فيه النقاد والكتاب: عبد الرحمان بوطيب، سعيد رضواني، محمد عرش، نور الدين حنيف وسيرته الشاعرة ثورية لغريب.
صوف الذي غادر الكاريان في بداية الستينات يعترف أن هذا المكان/ الفضاء سكنه ولا يزال يقيم فيه، وهو على مشارف الخامسة والسبعين. إقامة جعلته يدفع بهذا الفضاء (الكاريان: الحي الصفيحي) لأن ينتزع في هذه الرواية، البطولة من الشخصيات.. هو الواقع والمتخيل، هو المكان الذي يحتضن الشخصيات والأحداث، ويتحول في هذا العمل من فضاء مادي فيزيائي إلى محدد هوياتي يتقاطع فيه النفسي بالاجتماعي، الفردي بالجماعي، كاشفا عن تلك العلاقة الجدلية بين المكان الهامشي وتشكل الهوية النفسية والاجتماعية.
الإنسان في رواية “أولاد الكاريان”
ولأن رواية محمد صوف تكشف العلاقة الجدلية بين المكان الهامشي وتشكل الهوية النفسية والاجتماعية، فقد اختار الناقد والشاعر والفنان التشكيلي نور الدين حنيف مقاربة الرواية من خلال تشكل الإنسان داخلها، وهو تشكل تم عبر منظورين:
* منظور المؤلِف المبادر إلى المعنى.
* منظور القارئ المنتج والمعيد لإنتاج المعنى ، وهو ما يجعنا أمام رواية بمساحة تخييلية تعبر باللغة السردية ممكنات المعنى للتعريف بواقع “يتعين في الزمان والمكان ويتصدر فيه الإنسان منازل تفضح سيرورته وصيرورته”. وأضاف حنيف أن استنطاق هذا الحضور وقراءته يتم داخل ثلاث دوائر:
1.دائرة العلامة، وفيها يتم الكشف عن ممكنات وجود مجازي لهذا الإنسان.
2. دائرة التقاطع: وفيها يحصل التقاطع في النص المقروء بين ما نفهمه في لحظته الحاضرة وبين جملة المعارف التي نحملها في تراثنا الإنساني.
3. دائرة الأسلاك الشائكة والمقصود بها دائرة المنهج التي تضبط عميلة التأويل .
كل هذه الدوائر يضيف المتدخل، تشتغل ضمن 44 حكاية، وتتشعب قضاياها ومصائرها في بؤرة من البؤر الدلالية العقيمة في غير انمحاء أو إلغاء لدائرة على حساب الأخرى، ومنها ينبع معين ثرٌّ لأشكال الإنسان داخل هذه الرواية: الإنسان الضعيف المنكسر والخائف، الإنسان الضحية، الإنسان الشهواني، الإنسان الجسد، الإنسان المغترب، الإنسان الانتهازي…
وخلص حنيف إلى أن رواية “أولاد الكاريان” ترسم لوحات قوية لغة وتخييلا وحكيا.. لإنسان الهامش في منطقة بيضاوية موسومة باسم قدحي في الوجدان الشقي المغربي (الكاريان) .. بحمولته السلبية فيما هو فضاء حمال أوجه أخرى أكثر ثراء وأكثر عمقا وأكثر دلالة. فضاء لم تتغير ملامحه منذ سنوات الاستعمار، بل حفر الاستقلال ندوبا أخرى عميقة فيها، فضاء أوقدت فيه الشموع زمنا توقا إلى عيش كريم، لكنها انطفأت في منتصف الطريق إلى الضوء.
تشكلات القوى الفاعلة في الرواية
لم يخف الدكتور عبد الرحمان بوطيب، مدير عام مجلة “الرؤى العربية للإبداع والنقد”، حذره وهو يدلف إلى أزقة “أولاد الكاريان”، من عتبة العنوان الذي جره، وهو يحاول استقراء وقراءة هذا العمل، إلى التوقف عند مدخلين متعالقين يطرحهما العنوان “أولاد/ الكاريان”، أحدهما مدخل إنساني والآخر كياني باعتبار فضاء الكاريان مكانا ماديا، سواء على مستوى تمظهراته الطبوغرافية، أو باعتبار بعده الدلالي الذي يحيل إلى تاريخ يلخص تاريخ المغرب في مراحل مفصلية.
القراءة التي اقترحها بوطيب ركزت على القوى الفاعلة المستمدة من الشخصيات الروائية، وعلاقتها بالذات والآخر والمجتمع، حيث حاول الوقوف على تشكلات هذه القوى انطلاقا من مجموعات كبرى تتفرع عنها أخرى صغرى، بينها تضارب وتدافع وهي :
-مجموعة البطش: وتتمظهر وتتحدد زمنيا بسلطة زمن الحدث، أي بين زمن الاستعمار وبداية الاستقلال.
– مجموعة منظومة الضعف والانكسار وعدم القدرة على المواجهة .
– مجموعة مقاومة أشكال البطش أو مجموعة الصدام من موقع إيجابي، والتي ترفض بطش الاستعمار وبطش القوي.
– مجموعة الفضاء المكاني عندما يتحول إلى فضاء دلالي يمثله الكاريان بأكواخه ومسجده ومدرسته، والعلائق المنسوجة داخله.
وقد أشار بوطيب إلى أن كل ما سبق يقودنا إلى الوقوف عند مجموعة خامسة تتمثل في منظومة قوة القيم والمبادئ كقوة فاعلة، موزعة على عدة مستويات، وتجد حضورها في القوى الفاعلة الأخرى أي في المجموعات السابقة، وفيها تتصارع القيم والسلبية والايجابية، ويحدث تدافع الأفكار والمشاريع
الواقع والتاريخ والمتخيل
يرى الشاعر والناقد محمد عرش أن رواية محمد صوف، تنكتب من الواقع كما هو كائن، وتتجاوزه إلى ما ينبغي أن يكون وفق منظور جمالي، مشيرا إلى هذا الواقع يُكتب دون مساحيق، بدءا من العنوان الذي يضع القارئ مباشرة على الطريق الصائب دون منعرجات أو منحدرات قد تعيق عمليتي القراءة والتأويل، وهو ديدن الكاتب منذ عمله الروائي “رحال ولد المكي”.
إن عنوان العمل، كما يرى صاحب “أشجار أدونيس”، “ينوب عن رجال ونساء “الكاريان”، كبعد يتجلى للكاتب ويخفيه عن القارئ إلى أن يعثر عليه”، داخل فضاء حي البطولة والمقاومة، حي الطبقة العاملة الوافدة من الهوامش لتشكيل بنية متعددة اللهجات والعادات والمواقف، هو الحي المحمدي.
في هذا الفضاء متعدد الأحياز، تتمدد الأمكنة بين الواقع والتاريخ والمتخيل، ويستعرض صوف الأحداث وفق منظوري التقابل والتوازي عبر لوحتين: الأولى تنطلق بحدث بسيط بالبحث عن عشبة “الأزير”، وهنا يقع الحدث الذي سيتخذ أبعادا درامية في ما بعد، بواقعة الاغتصاب التي تؤشر إلى لوحة ثانية كبرى تتمثل في اغتصاب الأرض والحرية من طرف المستعمر الفرنسي.
عرش لفت في مداخلته إلى أن صوف لم يظل حبيس الإطار الواقعي، بل انتقل إلى الإشارة لأسماء سياسية من قبيل “عبد الرحمان اليوسفي”، “عبد الله إبراهيم”، “علال الفاسي”، “مينة الحريزية”، ثم إلى الأمكنة “سينما شريف”، “عوينة شامة”، مسجلا أنه رغم أن الأحداث تاريخية واقعية، فقد استطاع صوف أن يفسح المجال لكل ما هو حي وجمالي بلغة السرد المتماسكة، والاهتمام بالتفاصيل وتسلسل الأحداث.
مهندس لغوي لأبنية الكاريان
في قراءته لهذا العمل، أخذ القاص والروائي سعيد رضواني الحضور إلى سفر متخيل بين مدينة “أولاد الكاريان” ومدينتي تشارلز ديكنز “باريس ولندن”. سفر أبرز من خلاله كيف تحول صوف إلى مهندس لغوي لأبنية الكاريان، متأرجحا، لحظة التفكير في مشروع الرواية، بين أفضية وثيمات “قصة مدينتين” لديكنز وقصة”بيير مينار “لبورخيس، وهو يستدعي الذاكرة كي تنتصر لحلم الهامشيين والهامش.
ولفت رضواني إلى أن هذه الرواية نمت في ذهن صوف كشجرة شاهقة “جذورها في تربة الأدب الأرجنتيني وفروعها في سماء أدب إنجليزي، وروحها في تربة أدب مغربي” .. رواية نمت في البيوت الواطئة للدار البيضاء تحت ضوء الشموع وقناديل الزيت.
وأشار صاحب “أبراج من روق” إلى أن صوف كان يدرك خلال السنوات العجاف التي عاش وعايش فيها تجربة مرض زوجته، في وفاء نادر، مقدار الجهد الذي عليه أن يبذله وعدد السنوات التي عليه أن يحرقها كي يخرج عمله هذا إلى الوجود بعد أن عقد العزم على أن يجعلها تصور معاناة الفقراء في أحياء الصفيح بالدار البيضاء حتى تكون ثيمتها متقاطعة مع ثيمة رواية “قصة مدينتين” لدينكز التي تدور أحداثها زمن الثورة الفرنسية، والتي تبرز الظلم الاجتماعي الذي كانت تعانيه الطبقات الفقيرة، وقصة “بيير مينار”.
وخلص رضواني في ختام مداخلته إلى أنه بعد وفاة زوجته، حمل صوف قلمه من أجل إتمام روايته إرضاء لروح زوجته المحبة للإبداع، حمله “بأصابع كانت تحاول جاهدة أن تكمل رواية من المفترض أن يسميها “أولاد الكاريان”.. رواية تلمح، وإن لم تصرح، إلى الكاتب محمد صوف الذي استعار أصابع رجل ميت حتى لا يُشعِر أقارب زوجته بأنه مستمر في الحياة بعدها .