خاص الباحث فراس السواح في مواضيع تتعلق بالأديان والفلسفات والأساطير فى الشرق، وفي عقد المقارنات بين الأديان، ومن ذلك ما فعله فى كتابه «القصص القرآنى ومتوازياته التوراتية»، إذ طرح مسألة التشابه بين القصص القرآنى والقصص التوراتى من زاوية الباحث الذي يعتمد منهج علم الأديان المقارن. فسرد أمامنا قصص العديد من الأنبياء كلوط وابراهيم وإسماعيل ويوسف وموسى وداوود وسليمان ويونس وغيرهم..
1 – إبعاد هاجر وابنها إلى الصحراء :
في سورة إبراهيم، هناك إشارة غائمة وبدون تفاصيل إلى قصة إبعاد هاجر وابنها إسماعيل إلى برية قاحلة، حيث نقرأ على لسان إبراهيم: «ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرعٍ عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة. فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون». (14 إبراهيم : 37 ) وهناك إجماع بين المفسرين استناداً إلى أحاديث متواترة، على أن من أسكنهم إبراهيم من ذريته في الوادي القاحل هما هاجر وابنها إسماعيل. والقصة الكاملة تروى عن الصحابي عبد الله ابن عباس على الشكل التالي: لما وجدت سارة أنها لن تحمل من إبراهيم، طلبت منه أن يدخل على جاريتها المصرية هاجر. فحملت هاجر وأنجبت لإبراهيم غلاماً دعاه إسماعيل. ولكن سارة بدأت تغار من هاجر وطلبت من إبراهيم إبعادها. فأوحى الله إلى إبراهيم أن يأخذ هاجر وابنها إسماعيل إلى الحجاز. قاد جبرائيل إبراهيم ومن معه إلى مكة حيث كان المقام الذي بناه آدم. وكانت قبيلة العماليق أول من سكن في هذه المنطقة، حيث أقاموا في الجبال المحيطة بالمقام. هناك صنع إبراهيم لأسرته كوخاً من القش، وتركهم لكي يعود إلى موطنه. ولكن هاجر نادته قائلة: إلى من تتركنا؟ فقال: أترككم إلى الله. فقالت: هل طلب منك الله أن تفعل ذلك؟ قال : نعم. ثم مشى إبراهيم خطوات والتفت إلى الوزراء وقلبه يتمزق على زوجته وابنها، ثم تابع طريقه وهو يقول: «ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة… «(الآية).
بعد بضعة أيام نفذ ما لدى هاجر من التمر والماء. وجف الحليب في صدرها وساءت حالة إسماعيل. فقالت في نفسها: لن ألبث هنا وأراه يموت. فصعدت إلى تلة الصفا وضرعت لله من أجل المعونة، ثم هبطت وسارت نحو تلة المروة فارتقتها وراحت تنظر إلى حيث كان إسماعيل. ثم إنها سعت بين الصفا والمروة سبع مرات وهي قلقة حائرة. وسمعت صوتاً فمشت نحو مصدره حتى وصلت إلى إسماعيل، وهناك ظهر لها الملاك جبريل فضرب الأرض بكاحله فانبثق من الموضع نبع ماء، فشربت هاجر وتدفق الحليب في صدرها فأرضعت ولدها. ولخوفها من أن يضيع الماء، أحاطته بحاجز ترابي فتحول إلى بئر هو بئر زمزم. فقال لها الملاك بأن هذا البئر لن ينضب، وأن ابنها سوف ينشأ ويكبر في هذا المكان، ولسوف يزوره أبوه ويعملان معاً على بناء مقام تقصده الناس من كل الجهات تلبية لنداء الله، ويطوفون حول المقام ويشربون من ماء البئر.
بعد ذلك مر بالقرب شابان من قبيلة جرهم يبحثان عن ناقة شاردة، فتعجبا لرؤية طيور تحوم في سماء المكان، لعلمهما بعدم وجود ماء هنا، فتبعا أثر الطيور حتى وصلا موضع البئر، واجتمعا بهاجر التي روت لهما قصتها. فعاد الشابان إلى قومهما وأخبروهم بالأمر، فجاءت قبيلة جرهم وسكنت في جوار سارة التي سعدت بوجودهم .
2 – القربان والفداء :
في بضعة أسطر تعبر عن الأسلوب القرآني المختزل، تحافظ الرواية القرآنية للقربان والفداء على أهم عناصر الرواية التوراتية الطويلة والمليئة بالتفاصيل :
«وقال: إني ذاهب إلى ربي سيهدينِ. رب هب لي من الصالحين، فبشرناه بغلام حليم. فلما بلغ معه السعي (2) قال: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك، فانظر ما ترى. قال: يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين. فلما أسلما (3)، وتَلَّهُ للجبين ( 4)، وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا (5 )، إنا كذلك نجزي المحسنين، إن هذا لهو البلاء المبين (6). وفديناه بذبح عظيم … إنه من عبادنا . وبشرناه بإسحاق نبياً ومن الصالحين» (3 الصافات: 102-107).
وكما نلاحظ من قراءة النصين، فإن الرواية القرآنية قد جعلت من إسماعيل موضوعاً للقربان بدلاً من إسحاق في الرواية التوراتية، وذلك على الرغم من عدم ذكرها لإسماعيل بالاسم. ونستدل على ذلك من قوله تعالى في نهاية القصة: «وبشرناه بإسحاق نبياً ومن الصالحين». أي إن إسحاق لم يكن قد وُلد حينئذٍ، وبطل القصة هنا هو إسماعيل. كما نلاحظ أن إسحاق كان في الرواية التوراتية طفلاً غافلاً عما يجري من حوله، وقد استسلم للربط على المحرقة دون مساءلة أو توقع لما سيحدث له، أما في الرواية القرآنية فقد كان إسماعيل فتىً يافعاً وضرب مثلاً في الخضوع للمشيئة الربانية عندما قال لأبيه: «يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين.»
3 – بناء الكعبة :
لقد جعلت الرواية من برية فاران موطناً لإسماعيل، وهي تلك المناطق الصحراوية الواقعة إلى الجنوب من فلسطين، أما الرواية القرآنية فتجعل موطنه في الحجاز وتنسب إليه وإلى أبيه بناء الكعبة المشرفة: «وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً، واَّتخَذوا من مقام إبراهيم مُصلّى. وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركّع السجود. وإذ قال إبراهيم : ربِّ اجعل هذا البلد آمناً وارزق أهله من كل الثمرات …. وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل : ربنا تقبّل منا إنك أنت السميع العليم» (2 البقرة: 125- 127 ).
الهوامش:
1- في النص العبري «أنا إيل شداي». أي إيل الشديد أو القدير.
2- أي فلما كبر إسماعيل واشتد عوده. ويقال إنه كان في ذلك الوقت في سن الثالثة عشرة.
3- أي فلما استسلما لأمر الله.
4- ي أكبه على وجهه ليذبحه.
5- أي يا إبراهيم قد نفذت ما أُمرت به في الحلم.
6- أي إن هذا لهو الابتلاء والامتحان الشاق الذي يتميز به المخلص من المنافق.