أندريه كونت سبونفيل: «التفلسف هو تَعَلُّمُ الحياة وليس الموت أو أمل حياة أخرى!»

غالبا ما تكون وسيلة ولوج المرء إلى الفلسفة هي لِقاءاته (سواء الواقعية أو الأدبية). لكن، هل يعني ذلك التحول إلى مجرد تابع؟
في هذا الحوار مع مجلةPhilosophie Magazine ، يُطلعنا أندريه كونت سبونفيل على مساره الفلسفي الخاص – رغم كثرة مُعلميه – منذ البدايات وحتى تحوله إلى فيلسوف يرفض أن يكون له أتباع، مُقدما نصائح ثمينة لكل باحث جديد عن الحكمة.

p متى كانت أول مرة قرأتَ فيها عملا فلسفيا ولمن كان؟

n كُنت أبلغ من العمر 16 سنة، أو كُنت على وشك بلوغها. كاثوليكي مُمارس، وحتى مُناضل (في صفوف الشبيبة الطلابية المسيحية)، كُنت محظوظا بمُخالطة قس استثنائي (من خلال الذكاء والثقافة والإحساس والكاريزما)، الأب برنار فييه، مُرشد ثانوية فرونسوا فيلون – حيث كنت تلميذا – والذي أصبح بمرور الوقت صديقا عزيزا. برنار، خلال نقاشاتنا، مُلاحظا ميولي نحو الفلسفة، نصحني بكتابين: خواطر لباسكال، وخوف ورعدة لكيركغارد.
أنا شبه متأكد أنِّي بدأت بالأول الذي أبهرني بشدة. لِما يقوله حول الله؟ بالكاد، بما أنه لا يقول عنه الشيء الكثير. لكن لِمَا يقوله عن الإنسان، وبالتالي عني: تَعَرَّفْتُ فيه عن بؤسي وتناقضاتي، وبالتالي أيضا عظمتي ووضاعتي، محنتي، ضياعي، عدم قدرتي على أن أكون سعيدا، وأخيرا ما هو مُيَئِّسٌ في الوضع البشري، ما يسمح الإيمان وحده بالإفلات منه، على الأقل من خلال الأمل. ثم كان هناك خوف ورعدة، حيث تعرفت على نفسي أقل، لكن حيث اكتشفت شكلا من المأساوي، يُتَجَاوزُ فحسب (ولا يُلغى البتة) من خلال علاقة معينة بالمُطلق أو المتعالي.
عندما فقدت الإيمان، عاما أو عامين بعد ذلك، بقي من هذه القراءات تصور معين للإنسان والحياة، اللذين بقيتُ أفكر فيهما، سنوات لاحقا، بعبارات باسكال وكيركغارد: كُنت متفقا معهما من أجل قول إنَّ ملحدا متبصرا ومنسجما لا يمكن أن يفلت من قَدْرٍ من اليأس (بما أننا نموت)، لكنني لم أكن مستعدا، مع ذلك، للتنازل عن لذائذ الحياة، التي كانت تبدو لي أثمن، لا سيما وأننا نملك حياة وحيدة.
يجب القول إنَّنِي قرأت أيضا، في نفس الفترة تقريبا، أسطورة سيزيف لألبير كامو، حيث وجدت بالمناسبة أفكارا مُجَاوِرَة – باسكال وكيركغارد وكامو، رغم اختلافهم، هم ثلاثةُ مفكرين تراجيديين – لكنها ساعدتني على التوفيق بين يأس مُعين وسعادة مُعينة (ما سأدعوه، سنوات كثيرة بعد ذلك، بـ “يأسٍ مرح»).

p وبعد ذلك، بأي مراحل مررت؟

n كان هناك أولا ماي 68، الذي رمى بي في شغفٍ سياسي (أولا عند اليساريين ثم في الحزب الشيوعي) لم يصمد الدين أمامه طويلا: أولا لم يعد الله يُثير اهتمامي ثم توقفت عن الإيمان به. بعد ذلك، كانت هناك الفلسفة، بالمفهوم المدرسي للكلمة، التي اكتشفتها في الصف النهائي تحت إشراف أستاذ ممتاز، بيير هيرفي، بطل المقاومة ومسؤول شيوعي قديم (تم إبعاده من الحزب سنة 1956 جراء انتقاده للستالينية)، حيث أن دَرْسَهُ، الواضح والغني والمُنظم جدا، أثار شغفي. لقد جعلني أكتشف سارتر وميرلو بونتي (كان يُفضل الثاني وكنت اُفضل الأول).
بعد ذلك جاءت السنة الثانية من الأقسام التحضيرية الأدبية (La Khâgne) بثانوية لويس الأكبر، بمعية أستاذ لامع وودود بشكل عجيب، أندريه بيسيل، الذي قُمْتُ بتَمْدِيدِ تَعْلِيمِهِ من خلال قراءة ألتوسير، وقتئذ في أوج مجده، وخاصة قراءة لوكريتوس (أي أبيقور أيضا) وسبينوزا، لأنهم كانوا ضمن برنامج مباراة ولوج المدرسة العليا للأساتذة. هذا غَيَّرَ كل شيء!
في العمق، يذهب أبيقور وسبينوزا في نفس اتجاه كامو (أو هو يذهب في نفس اتجاههما)، لكن بشكل جذري وقوي وعميق هَزَّ كياني: شَرَعتُ في الرهان على سبينوزا ضد باسكال، قبل أن أفهم (أخذ مني ذلك 30 عاما) أن كلاهما على حق، وبالتالي كلاهما على خطأ، ما يُعطي الحق لمونتاني في نهاية المطاف.

p كيف تَطَوَّرَت (أم لم تتطور) فكرتكَ عن ماهية الفلسفة على امتداد مسارك؟

n إن قِراءة ألتوسير ثم تأثيره المباشر، بما أنِّي كنت طالبه، أغرقاني زَمَنًا في تصورٍ للفلسفة، مُفرط في التنظير ونِضالي في الوقت نفسه. كانت تلك روح العصر، التي سرعان ما أشعرتني بالضجر. كان لا بد من مُلاحظة أن عمل ألتوسير يُفضي إلى مأزق وأن ماركس نفسه، الذي قرأته كثيرا، يهمني أقل فأقل. في حين، على العكس، أثار الإغريق والكلاسيكيون (خاصة ديكارت وسبينوزا ولايبنيتس) شغفي.
كُنت أقل انخداعا بكانط، الذي قرأته كثيرا مع ذلك (كان ضمن برنامج التبريز)، وعموما بالفلسفة الألمانية. لاحظت جيدا أن إرادة دفع الفلسفة في «الطريق الآمن لِعِلم» (كما يقول كانط) كانت مُضَلِّلَة، ودفعتها عَمَلِيًّا عند ورثته، إلى صُورِّيَّةٍ ظنية للغاية، سرعان ما بدت لي، حسب الحالات، مُبهمة أو مُتكلفة أو باطلة. (حتى عند الاثنين اللذين كُنت أُحِسُّني الأقرب إليهما، أي شوبنهاور ونيتشه). هذا لا يمنعني من اعتبار أن كانط هو أعظم فيلسوف حديث، مثلما أن أرسطو هو أعظم فيلسوف قديم، دون أدنى إغراء بأن أصير أرسطوطاليسيا أو كانطيا.
في العمق، كُلَّما كان تفلسفي يزيد، كان إيماني بالفلسفة يقل، الأمر الذي أعادني إلى باسكال – “من هزأ بالفلسفة فقد تفلسف حقا» -، وبدرجة أكبر إلى مونتاني.

p عند المُعاصرين، من تضعُ في القمة من أولئك الذين تدين لهم بالتّبعية؟

n لست تابع أحد. كُنت طالب وصديق ألتوسير ومارسيل كونش، لكن لم أعد تابع الأول منذ زمن بعيد، ولم أكن يوما تابع الثاني. لقد عَلَّمَانِي كيف أُفكر، لكن ليس أنْ أفكر مثلهما، ولا أنْ أُواصل بأي شكل من الأشكال عَمَلَهُمَا. لِذا فقد كانا مُعلمين جيدين: مُعلما حُرية، لا مُعلما طاعة! أنا فقط أكثر امتنانا لهما، وبخاصة لمارسيل كونش، الذي وجَّه مساري الجامعي أيضا (بفضله أصبحت أستاذا مُحاضرا بالسوربون).
أما بخصوص المعاصرين الذين أضعهم في القمة، والذين لهم الأثر الأكبر عليَّ، فأذكر عن طيب خاطر، إلى جانب هذين الاثنين، كلود ليفي ستروس وكليمون غوسيه، اللذين شَرَّفاني هما أيضا بصداقتهما، واُحِسًّهُمَا، بالمعنى الفلسفي، أقرب إليَّ من ألتوسير أو مارسيل كونش.
أُضِيف أيضا مُعلمين شرقيين يعنيان لي الشيء الكثير: جدو كريشنامورتي وخاصة سوامي براجنانباد الذي خصصت له كتابا (على الجانب الآخر من اليأس، مدخل إلى فكر سوامي براجنانباد، 1997).
أُضيف إليهما امرأتين، واحدة منهما فقط فيلسوفة، لكنهما معلمتان روحيتان تتعارضان في كل شيء تقريبا، وكلاهما هزا كياني: سيمون فايل وإيتي هيليسوم. تبدو لي الأولى أفضل تفكيرا في حقيقة الدين، خاصة الدين المسيحي، من أي أحد آخر: فقد ساعدتني، عن طريق الاختلاف، على التفكير في إلحادي. الثانية، التي هي نوع من القديسة والحكيمة، ساعدتني على فهم أَنَّ كل هذا (أقصد الدين أو الالحاد) لا يهم كثيرا: أَنَّ حب الحياة أثمن من العقائد.

p هل يُمكن للمرء أن يحظى بالعديد من المُعلمين، مع تخصص كل واحد منهم إذا جاز التعبير؟ هل بالنسبة لك باسكال مُعلم كُفر، ومونتاني مُعلم حكمة؟

n نعم، باسكال، رغم ما قد يبدو عليه الأمر من مفارقة، هو مُعلمي للكُفر. لماذا؟ لأنه لا يؤمن بأي شيء (سواء كان الإنسان أو الطبيعة أو التاريخ، أو حتى الحقيقة، والتي هي الوثنيات الأربع المهيمنة) باستثناء الله. اِسحبْ الله: لن يبقى سوى الكُفر في حالته الخام.
ومن المفارقات أيضا، أن مونتاني هو مُعلمي للحكمة: ذلك أنه لا يؤمن بالحكمة! تَذَكَّرْ ما يكتبه بخصوص لوكريتوس (والذي قد يصلح أكثر ضد الرواقيين، الذين يشير إليهم مباشرة بعد ذلك): «لِيبلُغْ من الحكمة ما يشاء، لكنه إنسان في نهاية المطاف: ما الذي هو أكثر بُطْلانا وبؤسا وعدما من ذلك؟».
في مُقابل ذلك يمنحنا مونتاني مثال حكمة أخرى، أدعوها بحكمة من الدرجة الثانية: حكمة لأجل أولئك الذين ليسوا بحكماء (بالمعنى الذي يُمكن أن يكون به أبيقور أو ابكتيتوس)، والذين لا يعتزمون حتى أن يصيروا كذلك، لكنهم يملكون على الأٌقل حكمة القبول بذلك! هذه الحكمة، هي أولا حب الحياة، مثلما عند إيتي هيليسوم، وهي الوحيدة التي تهمني.

p هل أحرقتَ ما قد عبدت؟ سارتر مثلا؟

n عبدتُ قليلا، ولم أحرق أي شيء. صحيح أَنَّنِي أحببت وأُعْجِبْتُ بسارتر، ولم يعد يهمني كثيرا. لكن حَرْقَهُ غير وارد! إنسانيا، هو أقل جاذبية من كامو. كَكَاتِبَيْنِ لهما نفس القيمة. لكن كفيلسوفين، سارتر متفوق طبعا على كامو، ما لا يعني أنه على حق ضده، ولا أن فكِره يتمتع بأهمية أكبر. الوجود والعدم كتاب مثير للإعجاب، وحتى عبقري. لكن، بصدق، لا أعبأ تماما بأن يقرأه أولادي أم لا. في حين قد يؤسفني أنهم لم يقرؤوا أبدا أسطورة سيزيف. أَجل! العبقرية في الفلسفة ليست كل شيء! الإحساس يهم أيضا، وأحيانا أكثر.

p من هو المعلم النموذجي بالنسبة لفيلسوف؟

n إنه معلم حرية، يُساعد كل واحد على إيجاد طريقه الخاص، وبالتالي يُكَوِّنُ عقولا حرة وليس أتباعا. لقد كان لويس ألتوسير ومارسيل كونش مِثاليين من هذه الناحية.

p وأنت، كيف تُدرك أنك مُعلم بالنسبة للكثير من الأشخاص؟

n هذا ما يكتبه لي العديد من القُرَّاء…هذا يمس شِغاف قلبي في كل مرة، دون أن يهمني كثيرا. لا أعيش منه بشكل أفضل مع ذلك، كما لن أموت.

p ما النصيحة التي تُوجهها لشخص يكتشف الفلسفة؟

n أن يقرأ ويُعيد قراءة ما أعتبره أجمل كتاب للفلسفة لجميع الأوقات: تأملات ميتافيزيقية لديكارت. ثم أن يكتشف، بشكل جزافي قليلا، تاريخ الفلسفة (مثلا من خلال تصفح كتابي لذة التفكير، مدخل إلى الفلسفة، 2015)، حتى يجد ذاك أو أولئك (يُستحسن أن يكونوا قد ماتوا منذ زمن بعيد، تَخفيفا لِثِقل الطُّرُق والفُرُق) الذين سيكونون له بمثابة المُعلمين، من سيتعهد بقراءة كل شيء لهم، قبل أن ينفصل عنهم، كما ينبغي فعل ذلك دائما في نهاية المطاف.
وأخيرا ألّا ينتظر منها الكثير. فلم يسبق للفلسفة أن أنقذت أحدا. لكن يحدث أن تُحررنا من رجاء خَلاَصٍ. إنه الطريق الصحيح: طريق التبصر والحكمة والمسؤولية. إنَّ التفلسف هو تَعَلُّمُ الحياة، وليس الموت أو أمل حياة أخرى!

المصدر:
Philosophie Magazine, HS n°59, S’initier à la philosophie.


الكاتب : ترجمة: يوسف اسحيردة

  

بتاريخ : 29/08/2025