أندريه كونت سبونفيل: «كُلما زاد حبي للحياة، قلَّت حاجتي إلى الكتابة» (1/2)

الحكمة، السعادة، الدين، الليبرالية، اليسار…يمنحنا الفيلسوف، أندريه كونت سبونفيل، الذي يصدر كتاب «نُهزة العيش»، درسا في الحكمة أَخَذَهُ بدوره من الحياة والقدماء. هنا ترجمة للجزء الأول من هذا الحوار عن مجلة «ليكسبريس»:

من البديهي
أن تستحيل سعادة
المرء حين يُشاهد
ما يحدث
في غزة أو أوكرانيا،
أو حين يُفكر
في الاختلال المُناخي والانهيار البيولوجي

 

ما لم يتصالح
اليسار الفرنسي
مع الليبرالية،
فسيظل منذورا للتعويذات حين يكون في المعارضة، وللفشل حين يصل إلى السلطة

p يجمع هذا الكتاب بين دفتيه»دراساتك النهائية» الفلسفية. لِمَ الرغبة في وضع حد للكتابة، في حين أنك شاب سبعيني؟

n سأتوقف عن كتابة المقالات التي تُعالج تاريخ الفلسفة، أي فلاسفة الماضي الكِبَار، ما أدعوه بـ»دراسات». في عمر الثانية والسبعين، لم أعد أمتلك السن لفعل ذلك. حين يقترب الموت، يصبح المرء، بالأحرى، راغبا في العمل على أشياء شخصية أكثر. في هذا الوقت ولأول مرة منذ خمسين عاما، ليس لدي أي مشروع كتاب أو كتاب قيد التأليف…
لقد نشرتُ ما يُقارب 8000 صفحة، في حوالي ثلاثين مؤَلفا، وبالتالي أكثر بكثير مما قد يرغب قارئ حَدِب بقراءته. لِمَ إضافة المزيد؟ أحلم منذ زمن طويل بعدم الحاجة إلى الكتابة، لأن الحياة ستكفيني. ربما أصبحتُ قادرا على ذلك أخيرا؟ هذا ليس أمرا مُحزنا، بل جيدا.

p يُوجد اليوم أكثر من 95 ألف مِئَوِي في اليابان. لا يزال أمامك الكثير من الوقت

n لقد أُصِبت بسكتة دماغية قبل ثلاث سنوات، دون أيّ عواقب، لكنها أثارت قلق أطبائي. سنرى! حتى لو كُنتُ سأعيش لأبلغ مئة سنة، فإن الجزء الأساسي من عملي يظل ورائي. أقول ذلك بفرح. لو أن أحدهم أخبرني، عندما كنتُ بصدد تحضير مباراة التبريز، بأني سأعيش من قلمي طيلة عقود، لَكُنْتُ قد تَحَمَّست.
لقد بلغتُ لحظة أصبحت فيها الحياة، والأيام الجيدة، تكفيني. لم أعد في حاجة إلى الكتابة من أجل تبرير وجودي. هذا أفضل!لسنا في حاجة إلى التفلسف إلا لأننا لسنا حكماء بما يكفي. ربما صرتُ كذلك أكثر قليلا؟ في هذه الحالة لن يكون تفلسفي قد ضاع سدى. كُلما زاد حبي للحياة، قلَّت حاجتي إلى الكتابة.

p سياسيا، كيف تنظر إلى تطورك من شيوعية شبابك إلى ليبرالية يسارية؟

n كما يقولها الفيلسوف آلن، «المُنحدر إلى اليمين». فيكتور هيجو، الذي يُعجبني، يُمثل استثناءً مجيدا: لقد فعل العكس، بدأ ملكيا قبل أن ينتهي يساريا تقريبا. في ما يخصني، أعترف، عن طيب خاطر، بأني صِرْتُ أقل يسارية مُقارنة بأيام شبابي، وهي حالة جميع أصدقائي بالمناسبة.
ومع ذلك فلم أنتقل إلى اليمين. آخر لقاء شاركتُ فيه، كان مع بيرنار كازنوف، من أجل الانتخابات الأوربية. أحملُ له الكثير من التقدير، وأُحسني أقرب إلى تياره، تيار يسار اشتراكي-ديمقراطي وليبرالي. ما لم يتصالح اليسار الفرنسي مع الليبرالية، فسيظل منذورا للتعويذات حين يكون في المعارضة، وللفشل حين يصل إلى السلطة.

p لقد كُنتَ شيوعيا في أعقاب ماي 1968. هل تَفْهَمُ أن شبابا اليوم يَتَحَمَّسُون لجان ميلونشون؟

n لا يكون المرء معتدلا حين يكون في سن السابعة عشرة…لقد أخطأتُ كثيرا بالتطرف حين كُنت شابا، حتى ألومهم على فعل نفس الشيء. لا بأس، سَيَمُر الأمر. تَعْرِف عبارة جورج برنارد شو الشهيرة: « من لا يكون شيوعيا في سن العشرين يفتقد للقلب، من يظل شيوعيا في سن الأربعين يفتقد للعقل.» لِنَقُل إني لم أفتقد، لا للعقل ولا للقلب.» [يضحك.]
مع التقدم في السن يُصبح المرء أقل كرما، وأقل مثالية، وأكثر أنانية أو حذرا. لكننا نَصِيرُ أيضا أكثر تَبَصُّرًا، وأكثر واقعية، وأفضل دراية بتعقيد الأشياء. هل من أجل أن يكون المرء يساريا عليه أن يتخلى عن التبصر والواقعية، فقط لأن الأنانية تنتمي إلى اليمين؟ لا أعتقد شيئا من هذا. لذلك أواصل الانتساب إلى يسار مُعتدل وبراغماتي.
مشكلتي مع اليسار الفرنسي لا تتعلق بميلونشون أو بالحزب الاشتراكي الحالي. كل شيء يعود إلى سنوات 1981 و1983. مُناضل شيوعي، أمضيتُ عشر سنوات أُقَاتِلُ بحماس من أجل البرنامج المشترك. في العاشر من ماي 1981، كُنت قد فقدت للتو أولى أبنائي بسبب التهابٍ للسحايا سريع الانتشار؛ لقد كُنت أذرف الدموع، لكن اليسار قد فاز.
إلا أنه طيلة الثمانية عشر شهرا التي تلت ذلك، حدثت ثلاث سقطات. بسياسة يسارية تقليدية، تعتمد على إنعاش الاقتصاد من خلال الطلب، وجدت فرنسا نفسها مُستنزفة. لكن، بالإضافة إلى ذلك، خسر اليسار في الانتخابات البلدية لسنة 1983، واحدا وثلاثين مدينة يفوق تعداد سكانها ثلاثون ألفا، ووجد نفسه أقلية في البلاد. لقد قاتلتُ إذن، طوال عشر سنوات، من أجل برنامج لم يصمد سوى ثمانية عشر شهرا.
سيقول البعض إن اليسار قد خان! كلاَّ! إن برنامجه الاقتصادي هو الذي كان عبثيا، مُرْغِمًا الجدير بالتقدير، جاك ديلور، على مُنعطف الانضباط. ما الفرق بين البرنامج المشترك وبرنامج الجبهة الشعبية الجديدة؟ أكاد لا أرى أي اختلاف حاسم. لم يفهم اليسار بعد أن سياسة الإنعاش من خلال الطلب، لا يُمكن أن تعمل في اقتصاد مُعولم. سنة 1981، أدى ذلك إلى إغراق الميزان التجاري لفرنسا دون خلق مناصب شغل. لقد تضاعفت البطالة خلال عُهْدَتَي ميتران.
إن ميلونشون يُواصل تكريس عبادةٍ لفرانسوا ميتران. كان هذا الأخير يزعم، في مؤتمر إيبناي، أنه قطع مع الرأسمالية. لا يخفى على أحد أن فرنسا كانت رأسمالية في نهاية عهدته الثانية (1995)، كما كانت في 1981. لكن في غضون ذلك انفجرت البطالة، الأمر الذي خدم مصالح الجبهة الوطنية.
أما إيمانويل ماكرون، فهو على الأقل قد نجح في خفض البطالة. لم أُقابله إلا مرة واحدة، وأُلاحظ مثل الجميع أنه فشِلَ سياسيا. لكِنِّي لا أفهم حجم الكراهية في حقه، في حين أن حصيلته الاقتصادية هي، بدون منازع، أعلى بكثير من حصيلة ميتران، الذي يُواصل اليسار الفرنسي تقديسه.

p لكنك «ليبرالي يساري»، أليس في الأمر تناقض؟

n أُحب الحرية، قيمة يسارية، وأُلاحظ أن اقتصادا ليبراليا يخلق ثروة أكثر من اقتصاد خاضع لسيطرة الدولة. هذا في حين أن الطريقة الوحيدة لتقليص الفقر هي خلق الثروة. ذات يوم قال لي المؤرخ جاك مارسي (ليبرالي كبير وشيوعي سابق): «أصبحتُ ليبراليا في اليوم الذي فهمتُ أن الليبرالية أنسب للفقراء من اقتصاد اشتراكي.» لقد كان مُحِقًّا.
لسْتُ ليبراليا مُفْرِطًا؛ أعتقدُ أننا في حاجة إلى الضبط. لهذا السبب يلزمنا يسار مُعتدل، عوض يسار يزعم القطع مع الرأسمالية، الأمر الذي لم يسبق أن أفضى سوى إلى إخفاقات أو كوارث.

p هل يُمكن للمرء أن يكون سعيدا بالنظر إلى حالة العالم أو حجم الدين العام الفرنسي؟

n كل شيء يتوقف على ما نعنيه بكلمة «سعادة». إذا كُنَّا نعني بالسعادة فرحة ثابتة (ما أدعوه بـ»الغبطة»)، أو إرضاء جميع رغباتنا (ما أدعوه بـ»الامتلاء»)، فمن البديهي أن تستحيل سعادة المرء حين يُشاهد ما يحدث في غزة أو أوكرانيا، أو حين يُفكر في الاختلال المُناخي والانهيار البيولوجي. لكن، في رأيي، السعادة ليست في الغبطة وليست في الامتلاء.
حسب استطلاعات الرأي، سبعون في المئة من الفرنسيين يقولون إنهم سعداء. من يصدق أنهم دائما فرحون أو راضون تماما؟ يلزم إذن تعريف آخر للسعادة. تعريفي بسيط جدا: السعادة هي عكس التعاسة. السعادة، في حدها الأقصى، لا أحد يعرف ما هي: «إنها مِثال للخيال، لا العقل»، يقول كانط. لكن التعاسة، كثيرون مِنَّا يعرفون ما هي، بما أننا قد عِشناها.
التعاسة ليست مثالا، وإنما تجربة، أَستخلصُ منها التعريف التالي: أدعو «تعاسة» كل مدة زمنية يبدو خلالها الفرح مستحيلا. تستيقظ صباحا، فتعرف أن الفرح لن يكون حاضرا اليوم، ولا حتى الأيام المُقبلة، مثلا لأنك فقدتَ أكثر شخص تُحبه في العالم، أو لأنك تعاني بفظاعة من مرض غير قابل للعلاج.
السعادة هي العكس: كل مدة زمنية يبدو فيها الفرح مُمكنا. ليس دائما واقعيا، لا ينبغي أن نحلم، وإنما مُمكنا باستمرار. تَسْتَيْقِظُ صباحا، فيكون الفرح حاضرا أو لا يكون (بالنسبة لي:نادرا ما تكون السعادة حاضرة في الصباح:أحظى بالأحرى باستيقاظات صعبة). لكنك تعرف أنه قد يحضر أثناء اليوم، وأنه سيأتي لا محالة.
هذه الفترات الطويلة حيث يبدو الفرح ممكنا باستمرار، هي ما أدعوه بـ»السعادة «. أرى في ذلك درسا في الحكمة. عوض أن نكون تعساء لغياب السعادة («كم جعلت هذه الكلمة الفظيعة، «سعادة»، من الدموع تنهمر»، يُلاحظ فلوبير)، لِنتعلم أن نكون سعداء لغياب التعاسة.

p فيمَ تقترن نُهْزَةُ العيش بِنُهْزَة الموت؟

n إذا كان المرء سيدا على حياته، فينبغي أن يكون قادرا على تَسَيُّدِ موته أيضا في بعض الظروف. لستُ داعية انتحار، لكنه، في اعتقادي، حق من حقوق الإنسان. من هنا معركتي من أجل تقنين الموت الرحيم والموت بالمُسَاعَدَة. حق الموت ليس بالحرية الأسمى (حق الحياة أثمن)، ولكنه الحرية النهائية.
الأبيقوريون والرواقيون – هاتان المدرستان الهلنستيتان اللتان كانتا تختلفان بصدد كل شيء – كانوا يتفقون بخصوص الانتحار. فقد كانوا يعتقدون أن مواصلة العيش أو عكس ذلك، تقرير إنهائه، هي مسألة نُهْزَة أكثر منها مسألة مبدأ. أتفق. الحياة ليست واجبا وليست عيبا: إنها فُرصة، مُتعة، معركة، نملك حق إيقافها حين نُريد، لأنها خاسرة مُسبقا، لكنها تستحق المواصلة بأكبر وأفضل مما يُمكن، ما دُمنا نظن أن ذلك يستحق العناء أو المُتعة.
عندما أُكافح من أجل تقنين الموت الرحيم، أو في الماضي من أجل تقنين الاجهاض التلقائي، يكون دائما هناك أغبياء من أجل إخباري: « أنت تختار الموت، أنا أختارُ الحياة.» هذا غبي. بين الحياة والموت، أُفضل بشكل واضح الحياة. لكن، بما أن لهذه الأخيرة أَجَلا في جميع الأحوال، من الأفضل، إذا استطعنا، اختيار الوقت والكيفية. هذا ليس سببا من أجل الإمعان في إعطاء قيمة للانتحار. نُهْزَةَ هي عكس وَاجِب: تعود لكل واحد حرية استغلالها.

p يقول مونتاني إنه ينبغي «العيش بمُوتاة». بمعنى؟

n أي يجب إبداء المرونة، معرفة التأقلم مع التيار المُتَغِّير للظروف. هذا ما أدعوه بـ»حكمة الرياح». في شبابي كُنتُ أحلم بحكمة متينة، على طريقة أبيقور أو سبينوزا. في «رسالة إلى مينيسي»و»الإتيقا»،الاثنان يصفان الحكيم بالشخص الذي لا يضطرب أبدا، والذي يعيش في الرضا الأبدي.
الحياة ومونتاني جعلاني أفهم استحالة ذلك. أبيقور يتحدث عن «أتاراكسيا»، أي عن غيابٍ للاضطرابات، مُعتبرا في ذلك طمأنينة تجعل المرء أشبه بإله. في سن الثامنة عشرة، كان ذلك مدعاة للحماس. لكن إذا أخبرتك، في سن الثانية والسبعين، أنِّي أعيش كإله بين البشر، فستقول مع نفسك، مُحِقًا، هذا فقَدَ صوابه. مونتاني، الذي كان مُعجبا بأبيقور، يرى في أتاراكسيته مجرد هراء. لسبب بسيط، يُلخصه مونتاني في جملة: «الحياة شيء هش ومن السهل أن تضطرب.»
وَاهِمُ من يُريد بناء حصن من الحكمة، كما كان يتمنى لوكريتوس، تابع أبيقور. على عكس ذلك، ينبغي قبول واقع أن الحياة شيء هش، أي متَغَيِّرَة وواهية. «العيش بمواتاة»، بالنسبة لمونتاني، هو العيش في الحاضر. ليس العيش في اللحظة، الذي ليس بمقدور أحد، وإنما في حاضر يدوم ويتغير.
إن «اللهاث وراء المستقبل» عوض «اغتنام الحاضر»، هو «أكثر الأخطاء البشرية شيوعا» في نظر مونتاني. فمن الأفضل استغلال الحاضر، الذي هو الوقت الوحيد الفعلي، عوض قضاء الحياة في انتظار المستقبل. لنأخذ الاختلال المُناخي على سبيل المثال: العمل الآن وحالا من أجل الحد منه، أفضل من الاكتفاء بالانتظار والشعور بالخوف.

يتبع
عن (L›express n° 3837)


الكاتب : n حاوره إريك شول وطوماسماهلر ترجمة: يوسف اسحيردة

  

بتاريخ : 07/02/2025