أنيس الرافعي: ما الذي حل بلغتي بعد عام من التصفيد الصحي ؟

ليست قرية «ماكوندو» التي كتب غارسيا ماركيز عن عقودها العشرة من العزلة في رائعته «مائة عام من العزلة».. إنها العالم وقد انتبذ ركنا قصيا من الحياة، يترقب ما وراء العاصفة. عام من عزلة موبوءة، لايزال العالم، يتفصد عرقا من حرارتها، يتحسس أعضاءه ويطمئن على سلامة الحياة داخل رئتيه.
يقال إن الأدباء أبناء العزلة الشرعيون، ففي عزلتهم يكتبون ما يرمم المبعثر، وما يجعل الإحساس متقدا يقظا بما حولنا.
اليوم، وبعد عام على الوباء نطرح على هؤلاء الأبناء سؤال: كيف استثمرتَ هذه العزلة؟ هل أوصلتك الى نقطة عميقة في الروح؟ هل كتبتَ بنضج وأنت مدفوع بقهرية اللحظة؟ هل حررتك العزلة؟ ( بيسوا: الحرية هي امتلاك إمكانية العزلة) سيأتيك الجواب على لسان الراحل محمود درويش: «نفعل ما يفعل السجناء وما يفعل العاطلون عن العمل
نربي الأمل».

 

( أن تتكلّم كما لو أنه لا لغة هناك)
أندري دو بوشيه
( ليست وظيفة الكتابة أو نتاجها طمس جرح أو علاجه، وإنّما إعطاؤه معنى وقيمة ، وجعله ، في النهاية، لا ينسى )
آني إرنو
( من يجرؤ على الكلام وسط الرمال؟ الصّحراء لا تردّ إلاّ على الصّرخة ، الأقصى، المغلّفة بصمت ستبزغ منه العلامة )
إدمون جابيس

وأنا أخمّن وأتأمّل بعمق، من زاوية كاتب القصة القصيرة ومقامه، في هذا الكمّ الهائل والمسترسل والمنهمل الذي أتلقّاه يوميّا، عبر مختلف الطرائق والطروس والحوامل ، من الكتابات والتدوينات و المدوّنات، ذات الصلات المكينة والروابط المتينة بسرديّات الجائحة،  سواء في توصيف هول حلولها الأليم غير المرحّب به البتّة، أم تدبير تبعاتها العصيبة عبر حبسة وطوارئيّة الحجر الصحيّ الطوعيّ المسكون بكثافة تراجيديّة طاغية،  قلت مع نفسي متسائلا : ترى لم انفجر فجأة ينبوع هذا البوح الفيّاض ، وصبّ في اتجاه نهر غواية القص والإنباء، جرّاء وقع هذه الآفة الطارئة مجهولة المآليّة ؟ وهل هو بوح واع بتقنياته وعناصره وإوالياته ووظائفه الحكائيّة والتواصليّة والتقييميّة ، أم هو كلام مرسل على عواهنه، مبسوط على ما حضر منه دون ترو أو تنوّق أو منطق ، وله في واقع الأمر مسوّغات ومرام وأعراض أخرى “جانبيّة “، قد تكون ذات طبيعة نفسانيّة استشفائيّة على الأرجح؟. في الحقيقة ، إنّ الكاتب- وهنا أتحدّث عن صنف معيّن من الكتّاب أعتبر أني أنتمي إلى طائفتهم – هو ابن الكارثة والمعزل. سليل فقاعته الأسمنتيّة الخاصّة، ونشيء السرداب التحتيّ للخلق الإبداعيّ، المنتميين بامتياز إلى المناخات العرفانيّة والبرزخيّة ﻠ “ أربعينيّة “ الراحل “ خوان غويتيسولو”. فطبيعة عمله الباطنيّة، وسمت حرفته داخل مشغله القصيّ المتنائي، يجعلان منه الممثّل الشرعيّ لهما والناطق الرسميّ بلسان حالهما. إذن، هو معتاد بلا غرو على تبنّي “الإجراءات الحاجزيّة “ بينه وبين الخارج البرانيّ، إذا ما شئنا استدانة هذا المصطلح من فهرس منظّمة الصّحّة العالميّة، وكذا مستأنس باجتراح مجازات الفجيعة، والإقامة في المناطق المعقّمة واليائسة للوجود، تلك التي لم تمتدّ إليها بعد ماكينة المرئيّ الطاحنة العاتيّة . اجتراح وإقامة افتراضيان فحسب، ولم يكن يدور بخلده وحسبانه يوما، أن يتحوّلا بغتة من خيال مخمليّ محلوم به، إلى كابوس حقيقي ينذر بالعزلة القسريّة والفوات المهلك. كابوس رهيب يتوعّد بإذلالات الجسد، و إهانات السويداء على نحو مخيف. الجسد “المراقب المعاقب” بالمعنى “الفوكوي”، حسب مظانّ مؤلّفه المرجعيّ الشهير. والسويداء المكرهة المنبوذة داخل نظام الجسد المغمى عليه اجتماعّيا، والموازي للنظّام السيّاسيّ المحدق، تبعا لتخريجات “دافيد لوبروطون” في كتابه “ أنثروبولوجيا الجسد والحداثة “. وعليه، فإنّ الكتابة تحت وطأة هذه الغمّة الممضّة، ليست ترفا راغدا على الإطلاق. ليست استكمالا لوذعيّا لمشروع أدبيّ شخصي ضّيق. ليست حطبا لتغذيّة نرجسيّة الذات الخلاّقة، التوّاقة أبدا إلى الصعود إلى واجهة مسرح الأحداث، تحت وهج مصابيح البروز مباشرة، من أجل ملاحقة صورتها الهاربة، قدام العتمة المشكّلة من آلاف نظار ونظرات محفل التلقي الحائرة الفضوليّة، وإنّما في الواقع هي محاولة لرواية ما هو غير قابل للحكي بالمرّة، تحت وطأة الخوف، وإرهاب رسول سكرة الردى على وقع “ اللّيل والضباب” “ (فيلم “ألان رينييه” الوثائقيّ ،1955). أعني، الحكي المستحيل. الحكي عند درجة الصفر بمعناه “ البارثيّ”. الحكي محال التبلور والتصيّغ على نحو طبيعيّ ومنساب دون تشظيّة، أو تشذّر، أو تغضّن، أو انفصال في “ الكرونوتوب” بحمولته “ الباختينيّة”. فسرديّات الجائحة -حسب ظنّي التنسيبيّ المقارن في رؤية الظواهر- مثلها مثل سرديّات الناجين من الحروب الكبرى، و الكوارث الجماعيّة المميتة، و السجون السيّاسيّة العنجهيّة القامعة، و”الغيتوهات” العنصريّة العازلة ، ومعتقلات الإبادة النازيّة، ومعسكرات التعذيب الستالينيّة أو العربيّة، عبر تمثيليّة نصوصها الكبرى ونماذجها العليّا مع ( سولجنستين، وروبير أنتليم،  وأحمد المرزوقي، وبريمو ليفي، و تادوش بروفسكي ، وديفيد روسي، وفارلام شلاموف، ومصطفى خليفة، ونادين غورديمر، وإيريش ماريا ريمارك، وأندريه بريشت، و إمره كيرتس، وسيغو سيبمالا، و سفيتلانا أليكسييفيتش…)، تتغيّا كشف “ وضع لا خلاص منه “ (فالتر بنيامين)، و تقديم تجربة إنسانية قاسيّة وغير مشفقة، لا تسمح إلاّ بما هو جوهريّ في حدوده الدنيا، داخل حيّز مكانيّ متغلّب، ومدى زمنيّ مدحور. تجربة تلامس تخوم الفزع ، وحواف الموت الأكيدين. ومع الدنو الحثيث منهما تتنصّل الكلمات من حربائيتها، وقدرتها المجازيّة على التمويه، والخداع، الكنائيّة، والنفاق الزخرفيّ. تصبح بعيدة كل البعد عن  “نظريّة ألعاب اللّغة “ ، قريبة كلّ القرب من “سوء استخدام اللّغة “، كما نستقطر ذلك من رأي “ فتغنشتاين “ الوجيه في  “بحوثه الفلسفيّة “. إنّ سرديات الجائحة ومرويّات التصفيد الصحيّ هي نوع من أدب العجز اللّغوي الخالص. فما يكتب اليوم بإفاضة عن مخلّفات النائبة الآنيّة،  أو عن يوميّات الحجر الصحيّ السيّارة، ضمن الكراريس، أو الكنانيش الحميمة، أو على الصفحات الشخصيّة في وسائل التواصل الاجتماعيّ، يخلق مسافة سحيقة وسخيفة بين اللّغة والتجربة، التي يواجهها المرء بوصفها “ حياة عاريّة “ ( جورجيو أغامبين) داخل حدود جسده ومعيشه اليوميّ، المحاصر بالعوز واختلال الحال، والهواجس، والوساوس، وكآبة الأسر الاختياريّ. وهي للأسف الشديد لغة مهشّمة متكسّرة، مترعة بالعتاقة، راشحة بالتقليديّة، مثقلة بالجمود، مدموغة بالهوينى والاتّئاد. مهما بلغت من التطوّر الأدائيّ والأسلوبيّ، فلن تجاري بالمطلق الحداثة المفرطة والسريعة للفيروس، وهو يطيح بالأجداث كلّ يوم بلا حصر، ويرفع أرقامه القياسيّة في القتل، ويصل بمؤشر عدّاد الضحايا إلى مستوياته وذراه القياسيّة. إنّنا من دون ريب نكتب مأساتنا بمواد قديمة وبالية. نكتب عن شيء جديد وسائل ومجهول تماما عن مرجعياتنا اللّغوية المتهالكة. نكتب بلا معجم ، وبلا لغة، وبلا بطولة، وبلا بوصلة هاديّة، وسط بحر متلاطم من الأكاذيب ، والشعوذيّات، والشائعات، والاختلاقات، والشكوك، و الخبل الدينيّ ، والعماء العلميّ والبيولوجيّ و البكتيريّ والإعلاميّ والسيّاسيّ . نكتب ونحن نشهد عاجزين موت وفراغ الاستعارة، أمام الصعود المقلق لسلطة تكميم الحريّات الفرديّة، وتطبيق إجراءات الحظر بشكل توتاليتاريّ يعود بنا إلى حقب بائدة و لاذعة، و كذا أمام انكشاف عورة أنظمتنا الصحيّة المترديّة، وهشاشة مواطنينا البؤساء المصطفين أمام طوابير المساعدة الاجتماعيّة،  بنوع من الضراعة المهينة والاستذلال الخنوع . نكتب بكبرياء جريح حدّ البكاء، وبيد منكّسة تلوح برايات الهزيمة النكراء. إنّه – باقتضاب غير مخل – حكي التوّاقين إلى النجاة من جحيم التكنيف و التبعيد الطوعيّ للذات، عن المجرى العاديّ لسريان الحياة صوب ضفاف الإجلاء و التنحيّة. إنّه حكي السفر داخل نقطة جامدة . حكي حركة رمش العين اليسرى الواحدة على طريقة بطل رواية “ بذلة الغوص والفراشة “ ﻠ “ جون دومينيك بوبي”. حكي الاختناق والانقباض. حكي البرق لا الباروك. حكي الإضمار لا الإسهاب، الذي هو منذور لإنتاج لغة شحيحة، ومحدودة ، ومن دون مساحيق تجميل، كما لو أنّها مصابة بورم نسيجيّ مزمن. فسرديّات الجائحة لا تنتج لغة موفورة الصحة و نضرة الوجنتين، بل لغة واهنة عليلة البدن. ثمّة تناذر شاذّ، وثمّة تكاثر مدمّر وغفير، وثمّة جنون عكسيّ للابتلاء، يصوّب سقمه وجرحه صوب هذه اللّغة. جرح يتهاوى بداخله السنن و الدالّ والمدلول والمعنى. جرح ناهش كأسماك  “البيرانا “ الضاريّة، يصيب الحروف بداء عضال لا برء منه . اللّغة في سرديّات الجائحة تلتهم نفسها بنفسها قطعة فقطعة مثل قبيلة من آكلي لحوم البشر. غير أنّ هذه اللّغة الضنينة، القتور، المسرطنة، “المكوفدة “، الفاقدة لجهازها المناعيّ، تضطلع بالمقابل بصيانة متخيّل الكارثة بعد نهايتها داخل متحف النّسيان القاسي الذي لا يوصد أبوابه . استباحة أراضي النّسيان المنيعة، ونزع فتيل ألغامها القابلة للانفجار في الوقت غير الملائم ، إذ إنّ الكاتب نوعا ما هو مزيل ألغام الذاكرة المزروعة غيلة في أراضي النّسيان. أيضا، تتولّى مهمّة “ نحت الزمن” ( أندري تاركوفسكي )، وكسر كتلة الصمت الصلدة المحيطة به كدروع السلاحف الترسيّة. تنهض بدور مقاومة البدد، وتذكير الذوات الفرديّة أو الجماعيّة ، بأنّها مرّت من هذا النفق التاريخيّ المكفهر بما له أو بما عليه . بمساوئه أو حتّى بمباهجه غير المتوقّعة (عودة الروح الإنسانيّة التضامنيّة، مثلا). نفق العمى، أو نفق الكوليرا، أو نفق السلّ، أو نفق الموت الأسود، أو نفق الموت الأحمر، أو نفق الطاعون القرمزيّ، أو نفق التيفوئيد، نظير ما تناهى إلينا من أعمال ( ألبير كامي وخوسي ساراماغو و نجيب محفوظ وغابرييل غارسيا ماركيز، وجاك لندن، وستيفن كينغ وطه حسين وتوماس مان، وإدغار آلا بو…). تذكيرها بأنّها مرقت من بين براثن هذا المنعطف الحادّ ، الذي لا يلزم أن يظلّ موشوما بالضبابيّة والالتباس. تتكفّل بالتحويل الخيميائيّ للسلوان غير الإيجابيّ إلى ذكرى متجدّدة و ناجعة، وذلك رفضا مبرما ﻠ “ سيمولاكر “هاوية الانمحاء، و تقصّدا لا إراديّا لجعل الفجيعة متحصّنة ومتأبيّة على النّسيان المفتوح من الناحية الذهنيّة والوجدانيّة والفكريّة والأنطولوجيّة. وهذا التمنيع ، أو الرفض الصارم للانتقاص ذرّة واحدة من السلوان “ أرض مكتظّة بالبقايا. عندما ننبشها لا نعثر على ذكريات بل على صور و أحيانا على صياغات لها هيئة الكهّان”، كما يقول “برنار نويل” ضمن شذرات وبين تلافيف “ كتاب النّسيان”. وبالتالي في المحصّلة النهائيّة ، تغدو النبوءة البعديّة على طريقة ساحرات “مكبث شكسبير” ، أو عرّافات معبد “ دلفي” ، هي الغايّة الأساس من وراء تقييد متخيّل الجائحة في سجلّ الذاكرة. نبوءة لا يدرك أسرارها سوى الذين “ يسيرون في اللّيل الذي لا ظلمات فيه ولا سماء ، ليل مثقل بغياب العالم وحضور الفاجعة “ (موريس بلانشو). أريد أن أقول: كلّ جائحة عظيمة هي المعادل الجمالي لكاتدرائيّة سردية ضخمة، وهي في حاجة لحوحة إلى كاتب عظيم من مستواها وحجمها العمرانيّ و المعماريّ!


الكاتب : إعداد: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 08/05/2021