أولياء مغاربة في مصر 2 : الإمام أبو الحسن الشاذلي حارس الجبال وقطب الصعيد

العلاقة التي تربط المصريين والمغاربة ،علاقة تمتد في الزمن منذ قرون،فقد تعددت أوجه هذه العلاقة كما تشهد بذلك كتب التاريخ .
ووفق المؤرخين، فقد هاجر العديد من المغاربة إلى الديار المصرية في عهد مولى إسماعيل، خاصة من فاس ومراكش، حيث استوطن أهل فاس في القاهرة، في حين استوطن أهل مراكش في الإسكندرية.
وتؤكد المصادر التاريخية، أن المغاربة الذين اختاروا مصر مقاما جديدا لهم، يعتبرون من التجار الكبار، وهناك تأقلموا مع أهل هذا البلد، فنمت تجارتهم، بل استطاعوا أن تكون لهم اليد العليا على المستوى التجاري والاقتصادي، فأصبحوا فعلا يشكلون النخبة هناك، ولهم تأثير واضح على مستوى الحكم.
تمكن المغاربة الذين اندمجوا بسرعة في المجتمع المصري،من توسيع تجارتهم، لتمتد إلى خارج مصر، وتصل إلى مكة والشام، بل بنوا حارات جديدة مازالت قائمة في مصر إلى اليوم، شاهدة على ما قدمه المغاربة من إضافة إلى وطنهم الجديد.
لم تقتصر الأيادي البيضاء للمغاربة على مصر في هذا الباب، بل ظهرت جليا على مستوى العلم والتصوف.
وكما يقال، إن كان الإسلام دخل إلى المغرب من الشرق، فإن تأثير المغاربة في المشرق جاء عن طريق علماء الصوفية.
في هذه الرحلة، نستعرض أهم أشهر المتصوفين المغاربة المدفونين في المشرق خاصة في مصر ،الذين تركوا بصمات وأتباع لمدارسهم الصوفية إلى اليوم ،حيث يستقطب هؤلاء المتصوفة المغاربة، الملايين من المريدين المصريين كل موسم.

 

من بين أعلام الصوفية المغاربة وقطب من أقطابه،الذي دفن في مصر، هناك أبو الحسن الشاذلي،أنشأ مدرسة صوفية كبيرة، لازال أتباعها وتلاميذها ينتشرون في مختلف أنحاء العالم الإسلامي ويكونون فرقا صوفية كثيرة تشعبت كلها عن الفرقة الأصلية التي أنشأها ونسبت إليه وهي الفرقة الشاذلية.
ولد أبو الحسن الشاذلي في أواخر القرن السادس الهجري في سنة 593 هـ في قرية غمارة بالقرب من مدينة سبتة بالمغرب الأقصى.
وهو تقي الدين أبو الحسن علي بن عبد الجبار بن يوسف.
وينتمي هذا الولي الصالح، كما جاء في مجلة دعوة الحق التي تصدرها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميةالمغربية، إلى قبيلة عمران قبائل المغرب وهي التي ينتمي إليها ولي الله سيدي عبد الرحيم القناني.
نشأ أبو الحسن في قريته غمارة وفيها تلقى علومه الأولى وحفظ القرآن، ثم أٍراد أن يستزيد من العلم فرحل إلى تونس. لقد كانت مدن المغرب الأقصى الكبيرة مثل سبتة أو مراكش أو فاس أقرب إليه من تونس، ولكنه أعرض عنها جميعا وأبعد في الرحلة فذهب إلى تونس، ولتفسير هذا لابد من إلقاء نظرة على الحالتين السياسية والعلمية في المغرب الأقصى وفي العالم الإسلامي بوجه عام على ذلك الوقت.
كان المذهب الشيعي قد انتصر في القرن الرابع الهجري، وبانتصاره قامت دولتان شيعيتان كبيرتان أصبحت لهما السيادة في طرفي العالم الإسلامي الشرقي والغربي، فالدولة الفاطمية في المغرب وتضم إليها بلاد المغرب جميعا ومصر واليمن والحجاز والشام والدولة البويهية في الشرق ولها السيادة في العراق قلب الدولة العباسية نفسها.
وفي القرن الخامس والسادس حدث فعل قوي، وبدأ المذهب السني يسود من جديد بعد أن ضعفت الدولتان الفاطمية والبويهية، وقامت دول سنية كثيرة كان هدفها القضاء على الدول والمذاهب الشعيية في كل مكان فكانت دول السلاجقة والأتابكة في الشرق ودولتا الأيوبيين والمماليك في مصر والشام ودولة الموحدين في المغرب والأندلس. وكان بعض حكام هذه الدول السنية مغالين في محافظتهم على المذهب السني ويرون في كل الحركات والآراء الفلسفية جنوحا نحو العودة إلى المذهب الشعبي، فهو مذهب كان يدرس الفلسفة وعلوم الأوائل ويتأثر بها إلى حد بعيد.
وهذا العصر بعينه هو العصر الذي شهد انقسام العالم الإسلامي إلى دول كثيرة شغل بغضها عن البعض الآخر، وهو الذي شهد ضعف هذا العالم الإسلامي وجرأة أوربا المسيحية على اقتحام ربوعه في الشام على أيدي الصليبيين، وفي الأندلس على أيدي الراغبين في إعادتها إلى حضيرة المسيحية والقضاء على الدويلات الإسلامية القائمة بها.
في هذا الجو الغريب قويت الحياة الروحية ونشط التصوف وكثر المتصوفة، فقد أحس المجتمع الإسلامي بعجزه عن نفسه من المغيرين الوافدين من الخارج، فراح المسلمون يبحثون عن قوة عليا يلجأون إليها في محنتهم ويحسون في كنفها بالاطمئنان النفسي، فلجأوا إلى التدين وأغرقوا فيه وفي العبادة والزهد، يلتمسون في هذا كله سكينة الروح وينسون في رحاب الله ما يكتنفهم من عوامل الفزع و القلق و الاضطراب و من هنا نشطت الحركات الصوفية في القرنين السادس والسابع، وأنقسم المتصوفة في هذين القرنين إلى قسمين: قسم حيا حياة روحية خالصة وقسم خلط التصوف بالفلسفة والروح بالفكر. وقد شهد المغرب عند نشأة الشاذلي به هذين النوعين من المتصوفة.
ففي مدينة فاس بالمغرب الأقصى كان يقيم في أواخر القرن السادس الصوفي الكبير الشيخ أبو تعزي بن بلنور، وكان الناس يفدون إليه من جميع أنحاء المغرب والأندلس، يأخذون عنه ويستمعون إليه ويلتمسون منه البركات، وفي مقدمة من وفد عليه القطب الفوث أبو مدين التلمساني فعاش معه سنين يقتبس من طريقته بالإقبال كان على الصوم والزهد والصلاة والتقشف والعبادة. حتى إذا قبس قبسة من روح أستاذه حل إلى المشرق ليقتبس قباسات أخريات من شيوخ التصوف هناك، وعن سيدي عبد القادر الجيلالي قطب العراق بوجه خاص.
وعاد أبو مدين إلى المغرب فأقام في بجابة وفاقت شهرته شهرة أستاذه أبى يغزى ولقبوه القوم هناك بالغوث وتتلمذ عليه العشرات من كبار العلماء وفي مقدمتهم الفيلسوف المتصوف الكبير محي الدين بن عربي والشيخ أبو عبدالله محمد بن حرازم أحد شيوخ الشاذلي.
وكانت الدولة القائمة بالحكم في المغرب وقت ذلك هي دولة الموحدين، ومن ملوكها من كان راغبا للحياة الفكرية مشجعا للعلماء والمفكرين، ومنهم من كان متزمتا مضطهدا لرجال الفكر والمشتغلين بالفلسفة.

 


الكاتب : إعداد وتقديم: جلال كندالي

  

بتاريخ : 13/03/2024