أولياء مغاربة في مصر الإمام المرسي -06- أبو العباس: ولي الإسكندرية وتلميذ الشاذلي الذي نجا من الغرق

العلاقة التي تربط المصريين والمغاربة ،علاقة تمتد في الزمن منذ قرون،فقد تعددت أوجه هذه العلاقة كما تشهد بذلك كتب التاريخ .
ووفق المؤرخين، فقد هاجر العديد من المغاربة إلى الديار المصرية في عهد مولى إسماعيل، خاصة من فاس ومراكش، حيث استوطن أهل فاس في القاهرة، في حين استوطن أهل مراكش في الإسكندرية.
وتؤكد المصادر التاريخية، أن المغاربة الذين اختاروا مصر مقاما جديدا لهم، يعتبرون من التجار الكبار، وهناك تأقلموا مع أهل هذا البلد، فنمت تجارتهم، بل استطاعوا أن تكون لهم اليد العليا على المستوى التجاري والاقتصادي، فأصبحوا فعلا يشكلون النخبة هناك، ولهم تأثير واضح على مستوى الحكم.
تمكن المغاربة الذين اندمجوا بسرعة في المجتمع المصري،من توسيع تجارتهم، لتمتد إلى خارج مصر، وتصل إلى مكة والشام، بل بنوا حارات جديدة مازالت قائمة في مصر إلى اليوم، شاهدة على ما قدمه المغاربة من إضافة إلى وطنهم الجديد.
لم تقتصر الأيادي البيضاء للمغاربة على مصر في هذا الباب، بل ظهرت جليا على مستوى العلم والتصوف.
وكما يقال، إن كان الإسلام دخل إلى المغرب من الشرق، فإن تأثير المغاربة في المشرق جاء عن طريق علماء الصوفية.
في هذه الرحلة، نستعرض أهم أشهر المتصوفين المغاربة المدفونين في المشرق خاصة في مصر ،الذين تركوا بصمات وأتباع لمدارسهم الصوفية إلى اليوم ،حيث يستقطب هؤلاء المتصوفة المغاربة، الملايين من المريدين المصريين كل موسم.

من بين الأعلام والأقطاب الصوفية ،الذي تتلمذ على يد الإمام الصوفي أبي الحسن الشاذلي، هناك أبو العباس المرسي، وهو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن حسن بن علي الخزرجي الأنصاري المرسي، ولد في مدينة مرسية في الأندلس عام 616 هـ الموافق 1219م ومنها حصل على لقبه المرسي، والذي أصبح اسما متدوالا في مصر بعد حذف لام التعريف. يتصل نسبه بالصحابي سعد بن عبادة ،كان جده الأعلى قيس بن سعد بن عبادة أميرا على مصر من قبل الإمام علي بن أبي طالب سنة 36 هـ.
تقول المصادر التاريخية، إن والده كان يعمل في التجارة، مما مكنه من إرسال إبنه إلى معلم لتعلم القراّن الكريم والتفقه في أمور الدين، وقد حفظ القراّن الكريم كله في سنة واحدة وتعلم بالأندلس أصول الفقه والقراءة والكتابة، وكان والده من تجار مرسية فشارك معه في تجارته، وكان المال الذي يتدفق إلى سيدي المرسي من تجارته، يذهب إلى جيوب الفقراء والمساكين وأبناء السبيل ،وكان يكتفي من أرباح تجارته بما يحفظ حياته.
كان مستغرقا بقلبه في ذكر الله فكان شغله الشاغل أن يتقدم كل يوم خطوة في طريق الحق والحقيقة.
اشتهر أبو العباس بالصدق والأمانة والعفة والنزاهة في تجارته، كان يربح مئات الاّلاف، ويتصدق بمئات الاّلاف، وكان قدوة لتجار عصرة في التأدب بأدب الدين الحنيف وكان قدوة للشباب في التمسك بالعروة الوثقى ورعاية حقوق الله فهو يصوم أياما كثيرة من كل شهر، ويقوم الليل إلا أقله، ويمسك لسانه عن اللغو واللمم. حيث نشأ في بيئة صالحة أعدته للتصوف.
في عام 640هـ الموافق 1242م ،تقول المصادر التاريخية، اعتزم والده الحج إلى بيت الله الحرام فصحبه معه وكذا أخيه وأمهما، فركبوا البحر عن طريق الجزائر حتى إذا كانوا على مقربة من شاطئ تونس هبت ريح عاصفة أغرقت المركب بمن فيها، غير أن عناية الله تعالى أدركت أبا العباس المرسي وأخاه، فنجيا من الغرق فقصدا تونس واتخذاها دارا لهما. وهناك قابل أبو الحسن الشاذلي في عام 640هـ وانتقل معه إلى مصر عام 1244م
تلقى أبو العباس المرسي التصوف على يد شيخه الصوفي الأشهر أبي الحسن الشاذلي الذي التقى به أبو العباس في تونس سنة 640 هجرية وقال له: «يا أبا العباس ما صحبتك إلا لتكون أنت أنا، وأنا أنت». وبعدما قد تزوَّد بعلوم عصره كالفقه والتفسير والحديث والمنطق والفلسفة، جاء أوان دخوله في الطريق الصوفي وتلقيه تاج العلوم.
استمر أبو العباس مع الشاذلي يسير في ضوء تربيته وينهج طريقه لا يحيد عنه قيد الشعرة إلى أن كانت وفاة الشاذلي.
أقام أبو العباس المرسي بالإسكندرية 43 عاما ينشر العلم ويهذب النفوس ويربي المريدين ويضرب المثل بورعه وتقواه وقد تلقى العلم على يدي أبو العباس وصاحبه الكثير من علماء عصره كالإمام البوصيري وابن عطاء الله السكندري وياقوت العرش وابن اللبان والعز بن عبد السلام وابن أبي شامة.. وغيرهم. و توفي أبو العباس المرسي في 25 من شهر ذي القعدة سنة 686هـ / 1287م ودفن معه ابنه محمد وإبنه أحمد ومسجده الذي بني على قبره بحي رأس التين.
وقد تولَى أبو العباس مشيخة الطريقة الشاذلية بعد وفاة أبي الحسن الشاذلي سنة 656 هجرية / 1258م وكان عمره آنذاك أربعين سنة وظل يحمل لواء العلم والتصوف حتى وفاته، بعد أن قضى أربعة وأربعين عاما في الإسكندرية، سطع خلالها نجم الطريقة الشاذلية في الآفاق.


الكاتب : n إعداد وتقديم: جلال كندالي

  

بتاريخ : 18/03/2024