يعتبر نجاح النموذج التنموي بالمغرب الذي تعلق عليه آمال كبيرة للإقلاع، رهينا بتظافر جميع مقومات التنمية وضمان التقائيتها، ولعل البعد الثقافي يبقى الأكثر مدعاة لإيلائه اهتماما أكبر، باعتباره المدخل الرئيسي لتحريك عجلة التنمية ومؤشرا على اضطرادها خصوصا في الجهات التي تزخر بموروث ثقافي غني سيساهم إذا أحسن استثماره في تنميتها وضمان مناصب شغل لعدد مهم من شبابها، كمدينة شفشاون التي يعتمد اقتصادها على السياحة والسياحة الثقافية خصوصا.
ترتبط الحركية الاقتصادية لمدينة شفشاون في الجزء الأكبر منها بالعامل الثقافي، لاحتضانها طوال السنة للعديد من المهرجانات الثقافية والفنية كالمهرجان الوطني للموسيقى الدينية والمديح لجمعية ربيع شفشاون، ومهرجان «أندلسيات»، والمهرجان الدولي للشطرنج، المهرجان الوطني للغناء الجبلي لجمعية ابن مشيش، ملتقى الموسيقى الأندلسية والملتقى الوطني للشعر الحديث الذي بلغ السنة الماضية دورته 34 والتي تنظمه جمعية أصدقاء المعتمد بن عباد، بالاضافة الى المآثر التاريخية التي تبقى أبرزها القصبة الأثرية بساحة وطاء الحمام التي تحتضن المتحف الإاتنوغرافي. هذا المتحف الذي يعرض أمام الزوار ثقافة السكان المحليين وعاداتهم في اللباس والعيش رغم ما لحقه من إهمال اليوم.
المتحف أو دار مولاي علي بن راشد
يقع المتحف الإثنوغرافي لمدينة شفشاون بالقصبة التاريخية بساحة وطاء حمام حيث يشغل الركن الشمالي الغربي من هذه المعلمة الأثرية التي يرجع تاريخ بنائها إلى 1471م على يد الأمير مولاي علي بن راشد، مؤسس الإمارة الراشدية بشفشاون. وقد شكلت هذه القصبة النواة الأولى للمدينة ومركز الحكم بها.
وقد كان في البداية إقامة أميرية خاصة بمؤسس المدينة الامير مولاي علي بن راشد 1471 ليتحول في القرنين 16و19 الى دار المخزن في عهد السعديين والعلويين ثم مقر مؤقت لبلدية المدينة خلال فترة الاستعمار الاسباني، ثم مفتشية للمباني التاريخية منذ أواخر 1930.
يحتل المتحف، الذي تم إحداثه سنة 1985، موقعا متميزا داخل أسوار القصبة التي تتشكل من عدة معالم هندسية وحديقة أندلسية الطراز تمتد على مساحة تفوق 2000 متر مربع كما يحتل المتحف مكانة خاصة في تاريخ وطبوغرافية المدينة حيث يشغل بناية تاريخية تم ترميمها وتهيئتها لهذا الغرض.
يعرض المتحف، الذي يتكون من قاعتين رئيسيتين يتوسطهما بهو تنتظم حوله بعض الفضاءات الجانبية، مجموعات متحفية وقطعا فنية تمثل الثقافة المادية للمدينة ومحيطها القروي، تعكس خمسة قرون من التفاعل الحضاري والثقافي بين المجموعات القبلية المحلية جبالة/غمارة والعناصر الأندلسية واليهودية التي عمرت واستوطنت المدينة منذ نشأتها في الربع الأخير من القرن الخامس عشر، كما تعكس في العمق فن عيش السكان وعاداتهم.
عند افتتاح المتحف الذي جاء متأخرا عن باقي المتاحف الوطنية، تم تزويده في إطار مسطرة التبادل بين المتاحف الوطنية الكبرى بالرصيد الضروري لافتتاحه من متحف الاوداية بالرباط ومتحف البطحاء بفاس ومدرسة الصنائع بتطوان، وخصوصا المجموعات المتحفية الخاصة بمنطقة جبالة -غمارة بمعدل 200 تحفة نفيسة، تم تعزيزها في مابعد عن طريق الاقتناء المباشر من هواة جمع التحف في سنتي 1994و1993، أو بالرجوع الى مسطرة التبادل مع متحف باب العقلة بتطوان أو متحف الأدواية.
بعد ذلك بدأ المتحف في أواخر التسعينات بإعارة بعض قطعه النفيسة لعرضها في المعارض التراثية التي تشرف عليها وزارة الثقافة كمعرض لشبونة ومعرض «سنة المغرب» الذي أقيم بمعهد العالم العربي بباريس .
أين اختفت بنادق ومطروزات المتحف؟
يضم المتحف مجموعة قطع من الفخار المحلي الذي يعتبر من الصناعات التي تميز المناطق القروية بشمال المغرب، حيث ينتشر إنتاجه بسلسلة جبال الريف وبقبائل جبالة/غمارة وأيضا بقبائل الريف الشرقي ويتميز بكونه صناعة نسوية أساسا كما يعتبر إنتاجا وظيفيا محضا إذ تتجه نساء المداشر لسد حاجيات المجتمعات من الأواني المستعملة في طهي الطعام ونقل وحفظ بعض المواد الغذائية باستثناء بعض المراكز التي أصبحت متخصصة في إنتاج وتسويق هذا النوع من الفخار (واد لو مثلا). وتنتمي أجود وأجمل القطع المزخرفة لقبائل جبالة الشرقية (سلس وتسول بضواحي تازة).
كما يتوفر على فضاء لفن النسيج الذي يشكل إحدى أبرز المهارات بشفشاون بشكل خاص ومنطقة جبالة/غمارة بشكل عام. وتعرض منها مجموعة من الأدوات والآلات (مرمة، ناعورة التسدية، ناعورة السفح، مغزل، نزق…) .
يضم المتحف أيضا ، مجموعات مختلفة من التحف التي تجسد ذلك التمازج بين المؤثرات الحضارية الأندلسية والمقومات المحلية للمنطقة والتي تتمثل في البنادق والسيوف وقوارير البارود ، ثم الآلات الموسيقية
التي تنقسم إلى آلات وترية وأخرى نقرية أو إيقاعية وتشمل آلة العود، الكمان والرباب، الدربوكة والدف وآلة الإيقاع .
ويقف الزائر على هذا التمازج الحضاري في الثقافة المحلية من خلال فن التطريز، إذ تعرض بالمتحف نماذج من الطرز التطواني يعتمد فيها على تقنية الرشم والرسم فوق قماش حريري كما يعتمد من حيث الأشكال الزخرفية على العناصر النباتية والزهرية التي تنفذ بخيوط حريرية ذات ألوان زاهية. ومن جهة ثانية نجد قطعا من الطرز الشفشاوني الأصيل الذي يعتمد على تقنية الخيط المحسوب، ومن حيث الأشكال الزخرفية على العناصر الهندسية التي تنقل بعض عناصر المعمار التقليدي من قباب وأقوسة وغيرها، بالاضافة الى صناديق وأبواب وهي الصناديق التي تعرف محليا باسم «البوجة» التي تحمل فيها العروس.
قبل ثلاث سنوات، اختفت بعض هذه التحف في الوقت الذي كانت عمالة إقليم شفشاون بصدد إنشاء أكبر متحف بشمال إفريقيا بتعاون مع المؤسسة الوطنية للمتاحف وهو المشروع الذي توقف.
ومن بين المقتنيات المصنفة والمختفية، توجد بنادق خماسية وسداسية وسيوف وقوارير البارود، والتي منها ما استعمل خلال حرب الريف (1921-1926) ضد المستعمر الاسباني، وهي بنادق وسيوف مطعمة بفصوص من العظام والمعادن النفيسة، ذات الأشكال والنماذج والزخارف المختلفة ومحافظ جلدية مطرزة كانت تصنع بمنطقة تغزوت بالريف الأوسط، بالإضافة إلى ثوب مطروز بتطريزات نادرة وحرير أندلسي كان مغطى بصندوق زجاجي، وآلة لحياكة الصوف والأغطية (دراز) وباب خشبي يرجح أن يكون من أبواب الإقامة الأميرية لمؤسس المدينة، وبعض الملابس التقليدية المحلية وأواني الفخار، ليتم تعويضها بمشغولات من الصناعة التقليدية ومشغولات جبصية، وقطع زليج، وهو ما يذكرنا بسرقة جامور المسجد الاعظم بالمدينة سنة 2006 ، والذي تمت إعادته بعد نشر جريدة «الاتحاد الاشتراكي» لخبر عن اختفائه لحظتها وهو الجامور الذي يعود تاريخة لخمسة قرون. نفس المسجد اليوم اختفت بعض الثريات التي كانت تزين أسقفه، بالاضافة الى اختفاء الضفادع الأندلسية التي كانت تتزين بها «حديقة الخسة «وسط المدينة.
هذا الاختفاء طرح ويطرح العديد من التساؤلات وسط المهتمين والرأي العام المحلي دون أن تقدم المندوبية الجهوية أو محافظة المتحف والقصبة أي توضيح عن أسباب الاختفاء في حينها: هل نقلت الى متاحف خاصة أم سرقت أم ضاعت أثناء إعارتها لعرضها بمتاحف خارج المغرب؟