اهتم أبو حيان التوحيدي في كتاباته المتنوّعة بإشكالات الإنسان وقضاياه. ومن الجوانب التي عالجها في كتبه قضية الجسد الإنسانيّ وما يرتبط به من محاور كالمسألة الجنسية وما يتصل بها من لذة ورغبة وشهوة، وذلك من خلال النوادر والحكايات والتعريفات الفلسفية والشروحات اللغوية، أو من خلال تقديم بعض المعلومات التي أفرزتها الممارسة والتجربة الإنسانية.والملاحظ أن تلك الحكايات والنوادر والمعلومات المتعلقة بالجنس وما يتواشج به من أحوال الجسد تتخلل الموضوعات الجادة بصفتها وسيلة للترويح عن النفس وأداة لتجنب عناء الجد،ولهذا فإنّ الحديث عن الجنس عند التوحيدي يوضع تحت بند”الهزل”. يقول على لسان الوزير في كتاب “الإمتاع والمؤانسة” مشيرا إلى الفهم العام والنظرة السائدة إلى خطاب الجنس:
“ربما عِيبَ هذا النمط كل العيب، وذلك ظلم لأنّ النفس تحتاج إلى بشر…”.(1)
ما يستشف من هذه القولة أنّ كلّ ما يتعلق بالهزل والجسد والجنس كان يمارس عليه نوع من الحظر والمنع، كما تكشف القولة عن الوظيفة المنوطة بـ”خطاب المجون” وهي تحقيق لذة البشر عند المتلقي، إن خطاب المجون أداة للترويح عن النفس.
وإذا كان التوحيدي يؤكد مرارا البعد الهزليّ لخطاب الجسد/الجنس في كتاباته، أفلا يحق لنا التروّي في قبول فكرته، وعدم الانسياق وراء هواه، والنظر إلى هذا الخطاب بوصفه أداة معرفة نظرية وعملية يسعى التوحيدي إلى تقديمها للمتلقي، كما يعتبر الخوض في هذا الخطاب خوضا فيما هو محرّم التعبير عنه وتجسيده عبر الكتابة، بينما هو غير محرم واقعا وممارسة؟ فهل الحاجة إلى الهزل وحدها هي التي تشرع الباب أمام الكاتب ليتحدث عن الجنس أم أن هناك حوافز أخرى هي المهيمنة على قلم التوحيدي؟
1/خطاب الجسد/ الجنس بين التلقي ورصد واقع المجتمع
إن القولة المستشهد بها سابقا تعتبر الحظر والمنع اللذين طالا خطاب الجسد/الجنس ظلما وعدوانا. فالعيب أو اللوم الذي يلقيه “المجتمع” على المتحدث والمستمع إلى هذا النمط من الخطاب بهدف الترويح به ظلم ينبغي أن يواجه عبر فعل الكتابة/القول.ومن ثم يمكن اعتبار إسهام التوحيدي في الكتابة عن قضايا الجسد والجنس اتجاه نحو رفع الظلم عن الخطاب المتعلق بالجسد. والناظر في مؤلفات التوحيدي يجد كثيرا من النصوص المرتبطة بهذا الخطاب ذات أهمية للوقوف عندها. ونحن في دراستنا هذه سنقف عند حكاية من حكاياه الكثيرة. ولكن قبل ذلك لا بأس بأن نورد بعض تصوراته وتعريفاته الفلسفية الدقيقة التي ترتبط بالموضوع. يقول معرفا اللذة : “اللذة انطلاق الشهوة الطبيعية من النفس بلا مانع”.(2) فمن شروط تحقق اللذة الانطلاق بدون قيد أو شرط في رؤية التوحيدي؛ وأية لذة وقع عليها الحظر انفلتت من إطارها لتصير قيدا. ويعرف الرغبة بقوله:”حركة تكون من شهوة يرجى بها منفعة”.(3) فإذا كانت اللذة شهوة طبيعية من النفس غير مقيدة، فإن الرغبة هي شهوة مقيدة بالمنفعة. والمنفعة غير محصورة ولا محدودة، قد تكون مرتبطة بالجسد، كما قد ترتبط بالنفس وأحوالها. ويعرّف أبو حيان الشهوة على الشكل الآتي:”هي التشوّق على طريق الانفعال إلى استرداد ما ينقص مما في البدن، وإلا نقص ما زاد فيه. والانفعال شئ يجري على خلاف ما يجري به الأمر الذي هو بالفكر والتمييز”.(4)
فبما أن اللذة انطلاقة حرة للنفس لا تخضع للحدود والشروط، فإنّ الشهوة انفعال يتطلّع من خلاله الجسد إلى استرداد ما نقص منه، وإذا لم تشبع الرغبة- التي تهدف إلى المنفعة- وخضعت لسلطة الحظر والإكراه نقص البدن وابتعد عن كماله وعن تحقيق منفعته.
تتضمن هذه التعريفات الفلسفية إشارات جلية إلى حرية الرغبة وضرورة انفلاتها من سلطة المنع والرقابة؛ فكيف بالخطاب المصاغ حول هذا الفعل البشري الطبيعي الذي يعد مطلبا ضروريا للجسد؟
إن هذه التحديدات لا تنفصل عن رؤية التوحيدي إلى أهمية الخطاب الجسدي/ الجنسي، فإذا كان الأخير وسيلة أساس للترويح عن النفس، فإن اللذة والشهوة والرغبة شروط وجود بالنسبة إلى بني البشر يتعرض الجسد في غيابها أو لحظة تهميشها إلى النقص واهتزاز الكينونة. فالجسد يكتمل بالانفعال والفكر والرغبة واللذة جميعا، وبغياب أي عنصر من هذه المكونات يصير الإنسان ناقصا وفي حاجة ملحة إلى تعويض نقصه. وإذا لم يفلح تنفتح أمامه- ولا شك- آفاق العنف والجريمة والأمراض النفسية.
من خلال ما تقدم نستشف أنّ التوحيدي كان ينطلق من فهم عميق لطبيعة الجسد البشري الذي يتطلب الحرية في تصريف اللذة وإكمال النقص عبر الشهوة التي هي انفعال متصل بالنفس وأحوالها. ومما لاشك فيه أن التوحيدي بإثارته للقضايا المرتبطة بالجنس، وعبر تأكيده أهمية الحرية كان يسعى إلى التنبيه إلى خطورة الواقع الاجتماعي المتناقض. فبينما تتمكن الطبقة الراقية من فعل ما يحلو لها دون رقيب أو حسيب نلفي الطبقات الشعبية تخضع للحظر الفعلي والرقابة المعنوية فتظل رهينة “الكبت” أو النقص في تكوين البدن وتحقيق اكتماله. ويورد التوحيدي طرفة لها دلالتها العميقة على النشاز بين الفئة المتمكنة والفئة المقهورة في ممارسة الحياة. يقول:
“هجم قوم على زنجي ينيك شيخا، فهرب الزنجيّ وعلقوا الشيخ، فقال:ما لكم؟ قالوا: يا عدو الله تتكلم؟!قال:ما لي لا أتكلم؟ ما لنا لا نناك؟ من أجل أنا فقراء؟ احتسبوا على الفضل بن الربيع وعلى الحارث بن زياد وعلى غطريف بن أحمد- وعدّ قوما في العسكر- إنما يحتسبون علينا لأنّا فقراء..”.(5)
تعكس هذه النادرة طبيعة الواقع الاجتماعي القائم على المفارقة والتناقض بين المعلن والخفي. ومن ثم فحينما أشار أبو حيان إلى ضرورة تناول”خطاب الجسد/الجنس”في الكتابة، وإن تحت غطاء الهزل، كان يسعى إلى رصد الواقع وإبرازه. والملاحظ أن أغلب ما يرويه التوحيدي من نوادر وأحاديث عن الجنس مستمدة من الوسط الشعبي تتقصى ظواهره المختلفة: الزنا واللواط والسحاق…وغيرها. وتتخذ هذه الحكايات لبوسات عدة لتعبر عن مواقف ساخرة أو ناقدة. وبعضها وظفت للسخرية من أولئك الذين يمثلون بعض أوجه “السلطة” كالقضاة والأمراء وقادة الجيش والوزراء، أو من يقومون بدور الحراس على الأخلاق والسلوكات من معلمين وفقهاء وغيرهم. ونورد على سبيل التمثيل إحدى هذه النوادر. يقول:
“تخاصم رجلان من أهل حمص في أمر نسائهما فقال كل واحد منهما: امرأتي أحسن، وارتفعا إلى قاضيهم، فقال القاضي: أنا عارف بهما، وقد نكتُهُما جميعا قبل تقلد القضاء وقبل أن تتزوجا بهما: فقال بعض العدول: قد عرفتهما فاقض بينهما، فقال: والله لأن أنيك امرأة هذا في أُستها أحب إلي من أن أنيك امرأة هذا في حِرِها؛ ففرح الذي حكم له وقام مسرورا “.(6)
تدين هذه الحكاية رجال القضاء وتسخر من أحكامهم، كما تدين الأزواج الذين يُعرّضون أعراض زوجاتهم للفضيحة. فالقاضي يعترف بمعرفته بالزوجتين أمام الرجلين والعدول، بل يتبجح بهذه المعرفة ويقضي استنادا إليها بين الرجلين. أما الرجلان فلا تتحرك في نفسيهما الشهامة وكرامة صيانة العرض والشرف- في مجتمع يتقيد بهذه الأخلاق- وإنما يكتفي أحدهما(الذي حكم له القاضي)بالتعبير عن فرحه وسروره لأنه كسب الرهان على خصمه. إن هذه الحكاية إدانة صريحة لواقع متفسخ يسهم في صنعه من يقومون بدور “الحراسة” على القانون والنظام و”القيم الرفيعة”!
إن هذه الحكاية وغيرها من الطرائف والحكايات التي أوردها التوحيدي- كما جمعها بعض المؤلفين الآخرين في عصره، بل قبله أيضا- تعكس واقع المجتمع العباسي وتفضحه دون مواربة. والتوحيدي من خلال جمعه لهذه النصوص، وإشارته إلى وقائع وأحداث وحكايات انفرد بذكرها، كان يرمي إلى ربط الكتابة بقضايا المجتمع، وعلى رأسها مسألة الجنس بما تمثله من خطورة في حياة الناس.